إيران أم السعودية.. مصر أم تركيا؟ ما هي الدولة الإقليمية المؤهلة لقيادة المنطقة؟

موقع عربي بوست



منذ قديم الزمان ومنطقة الشرق الأوسط ساحة تنافس بين الحضارات الموجودة على أطرافها مثل فارس والرومان والحبشة، وفي الزمن المعاصر لا يبدو الأمر مختلفاً كثيراً فرغم صعود قوى إقليمية شرق أوسطية لكن تأثير المراكز الإقليمية المحيطة بالعالم العربي يظل كبيراً، وبسبب عوامل القوة الاقتصادية والعسكرية والسكانية تبرز 5 بلدان تتصدر التنافس الاستراتيجي على قيادة المنطقة، هي تركيا وإيران وإسرائيل والسعودية ومصر.

 

تنافس إقليمي بين الدول الكبرى

اتسمت الجغرافيا السياسية بالمنطقة في المقام الأول بالمنافسة بين إيران من ناحية والسعودية وشركائها في مجلس التعاون الخليجي من ناحية أخرى. وكان البلدان الواقعان على الخليج العربي يتنافسان على النفوذ في ساحات كبيرة تشمل العراق والبحرين واليمن وسوريا ولبنان.
استخدم الطرفان الهوية الدينية كأدوات لتوسيع نفوذهما، في حين تستخدم القوى العالمية مثل الولايات المتحدة وروسيا موارد سياسية واقتصادية وعسكرية.
على طول خطوط الصدع تقريباً، تحالفت إيران مع الجماعات الشيعية، بينما احتضنت السعودية قوى سنية أخرى. وأصبحت المنافسة بين الاثنتين السمة المميزة للصراع والأمن في الشرق الأوسط.
ويكاد التنافس بين السعودية وإيران أن يتحول إلى صراع. فكلتاهما دولة غنية بالنفط وذات حجم جغرافي كبير لكن إيران تفوق المملكة من حيث الخصائص الطبيعية للقوة. ولكن لسوء حظ إيران، تتدخل الولايات المتحدة وإسرائيل لإضافة ثقل استراتيجي كبير إلى قوة المملكة.

تركيا تظهر في المشهد بقوة

بالإضافة إلى المنافسة بالوكالة، قامت الاثنتان أيضاً بزيادة قوتهما العسكرية، حيث تقوم إيران بتطوير قدراتها الصاروخية والطائرات بدون طيار بينما كانت السعودية تشتري أسلحة متطورة من الولايات المتحدة وغيرها من القوى الغربية الكبرى.
وبعيداً عن الخليج العربي يشارك لاعبون إقليميون آخرون الساحة نفسها بشكل متزايد، إذ قامت تركيا بدور نشط في القضايا الفلسطينية والسورية مما يؤهلها لتصبح ذات أهمية متزايدة في تشكيل نظام الشرق الأوسط في المستقبل.
فتركيا أيضاً لها مجالات نفوذها واهتمامها، تتركز على سوريا والعراق وإيران. ولكن نظراً لأنها بعيدة جغرافياً في الشمال الغربي من المنطقة أي أنها بعيدة عن مركز الثقل الاستراتيجي في الشرق الأوسط ، فإن لدورها حدوداً.
وفي ظل النظام الحالي، تأرجحت علاقات تركيا مع جيرانها مثل البندول. وهي تقترب حالياً من روسيا بدافع الضيق من حليفها الرئيس في الناتو – الولايات المتحدة.
أيضاً إسرائيل هي الأخرى تعتبر قوة رئيسية هامة في الشرق الأوسط رغم أنها غير عربية وغير مسلمة إلا أنها تختار شركاءها في الشرق الأوسط الذين يريدون إقامة توازن يحمي أنظمتهم، ومع ذلك، تستفيد إسرائيل من المظلة الشاملة للولايات المتحدة. وهي حالياً في وضع عدائي مع إيران وتطور علاقة استراتيجية سرية مع المملكة العربية السعودية.

و مصر أيضاً تحاول

ودائماً ما كانت مصر لها تواجد قوي تراجع بقوة قبل الربيع العربي، لكنها تحاول منذ ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، والتي أطاحت بالرئيس الأسبق حسني مبارك استعادةَ دورها الإقليمي الذي تراجع في آخر عهد مبارك، إضافة إلى الأزمات الاقتصادية وحالة الانسداد السياسي الداخلي. ورغم محاولة مصر ترتيب البيت الداخلي والتغلب على آثار الفوضى التي رافقت الثورة والانقلاب العسكري بعدها، تحاول القاهرة لعب دور هام في ظل خريطة التحالفات الجديدة.
سنحاول في هذا التقرير رصد قدرات ومقدرات أهم دول المنطقة ومدى إمكانية هذه الدول للعب دور القائد في الشرق الأوسط.

تركيا..  قوة إقليمية صاعدة


تطورت تركيا ذات الثمانين مليون مواطن من دولة تدور في فلك الولايات المتحدة إلى قوة إقليمية مستقلة وهامة لا تزال تنمو. وجرى تدريجياً التخلي عن العقيدة الكمالية (نسبة إلى مصطفى كمال باشا مؤسس الدولة التركية الحديثة) على مر السنين وتطوير عقيدة عثمانية جديدة.
تحولت تركيا من حليف ملائم للغرب إلى قوة إقليمية مستقلة؛ فعقب الحرب العالمية الثانية أصبحت تركيا تابعة للولايات المتحدة، تقبل كل شيء قادم من واشنطن، من المشاركة مع الولايات المتحدة في الحرب الكورية في عام 1950 ، ودخول حلف شمال الأطلسي في عام 1952، إلى تخزين الأسلحة النووية الأمريكية وقواعد طائرات التجسس U-2 على أراضيها.
بقيت أنقرة الحليف التابع للولايات المتحدة لسبب بسيط للغاية هو أنها كانت القوة الوحيدة التي يمكنها حمايتها من عدوها التقليدي، روسيا.
ومع ذلك، كانت تركيا تنمو سريعاً اقتصادياً وفي عدد السكان، عندما بدأت الذكريات العثمانية في العودة مرة أخرى.
ومع اندلاع صراعات إقليمية في القوقاز ومنطقة البلقان على الحدود التركية أو بالقرب منها أعطى ذلك مؤشراً على إمكانية التخلي عن المبادئ الانعزالية الكمالية، وهو ما جلب فرصاً جديدة للتأثير والقيادة الإقليميين، فقامت تركيا بأول محاولة للتوسع الخارجي، منذ قيام الدولة التركية، منذ نصف قرن في قبرص الشمالية عندما تدخلت عسكرياً بشكل مباشر وسيطرت على ثلث الجزيرة حتى الآن.
وفي عام 1994، أصبح الرجل الذي كان يدعمه حزب الرفاه الإسلامي، عمدة إسطنبول، وسُجن فيما بعد لفترة وجيزة، إنه: رجب طيب أردوغان الرئيس الحالي للجمهورية التركية.
وتم التنظير للدور التركي من قبل أحمد داود أوغلو، أستاذ العلوم السياسية في إسطنبول، والذي أصبح لاحقاً كبير مستشاري السياسة الخارجية في عهد رجب طيب أردوغان وقام بتطوير نظرة السياسة الخارجية الجديدة لحزب العدالة والتنمية والتي من شأنها أن تجعل تركيا تلعب دوراً أكبر في الشرق الأوسط والعالم.
هذا هو الأساس الفكري الذي شكل عقيدة القوة التركية الجديدة، ومفهوم المكانة العليا لتركيا، أكثر بكثير من مجرد قوة إقليمية في الشرق الأوسط، وتركيز التنمية الداخلية في الأناضول، بعيداً عن إسطنبول وساحل آسيا الصغرى، وأصبحت السياسة التدخلية في العراق وسوريا مثار انقسام بين تركيا والولايات المتحدة.

الطفرة الاقتصادية في تركيا


بدأ الاقتصاد التركي بعد عام 2001، باستثمارات كبيرة في البنية التحتية في الأناضول، والتي طورت الكثير من الاقتصاد الصناعي الزراعي في هذه المنطقة التي كانت مهملة في السابق.
وبين عامي 2002 و2011، نما الاقتصاد التركي بمعدل 7.5 في المئة سنوياً، فيما ارتفع متوسط ​​دخل الفرد من 2800 دولار أمريكي في عام 2001 إلى حوالي 10000 دولار أمريكي في عام 2011.
ومنذ عام 2002، ارتفع معدل تلبية صناعة الدفاع التركية المحلية لمتطلبات التسليح من 24 إلى ما يقرب من 70 في المئة وما زال يرتفع، ومن الأمثلة على ذلك الإنتاج المشترك للطائرة F-35 مع شركة لوكهيد مارتن وتصميم دبابة قتال تركية رئيسية وخطط بناء حاملة طائرات وغواصات في حوض بناء السفن التركي.
كما توجد القواعد العسكرية التركية دولياً في أذربيجان – شمال قبرص – العراق – قطر – الصومال – سوريا – الكويت وغيرها من الأماكن، وتشهد ليس فقط على طموحات تركيا الإقليمية الكبيرة، ولكن قدرتها على متابعة سياساتها والحفاظ على نفوذها.
وتوضح شبكة انتشار القواعد التركية بوضوح نيتها في توسيع وجودها السياسي – العسكري حول الأراضي العربية.
إن تطوير هذه القوة العسكرية، مع إمكانية التدخل الفعال، سينتهي بالضرورة باستخدامه، ولا يتوقع توقف نمو تركيا إلى قوة إقليمية كبرى.
ورغم أن الباحثين الغربيين كانوا يفضلون وضع رؤوسهم في الرمال فقد نمت تركيا بالفعل لتصبح واحدة من القوى الكبرى في الشرق الأوسط.
وعندما يكون لها مصلحة حقيقية، من الطبيعي أن يتم تحويل قوتها المتوسعة إلى الغرب، كما أن إشكالات اقتصادها لن توقف توسعها الجغرافي السياسي، ويقول الخبراء إن الانهيار الاقتصادي التركي إن حدث سيضر بأوروبا أكثر مما سيضر تركيا.

إيران.. هل تمنعها العقوبات من التحول إلى دولة قائدة؟

تحاول إيران كذلك التوسع في المنطقة، فهي مؤثرة بقوة في عواصم عربية تاريخية هي بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت وتمارس فيهم نفوذاً واسعاً لكن يواجه نفوذها المتزايد عوامل داخلية واقتصادية تعوق التوسع إضافة للعقوبات الأمريكية التي أثبتت التجربة أنها لا تحد من الطموحات الإقليمية الإيرانية وتصاعد دورها كمنافس إقليمي.
وسعى النظام الإيراني بعد الثورة الإسلامية عام 1979 إلى تصدير الثورة والأيديولوجية التي يحملها إلى الخارج. ودعمت طهران حزب الله في لبنان ليعمل كذراع إقليمي لها، لكن الحرب الدموية الطويلة مع العراق في الثمانينيات من القرن الماضي حدت كثيراً من هذه الطموحات التوسعية. وجاء الغزو الأمريكي للعراق وانهيار النظام البعثي موفراً لطهران مساحة جديدة تلعبها من خلال بوابة التيارات السياسية الشيعية المشاركة في حكم العراق.
ومثّل الربيع العربي كذلك فرصة جديدة لطهران بعد انشغال الدول العربية في قضاياها المحلية ووصول موجة التظاهرات للبحرين على يد أصدقاء طهران فيها.
اعتبرت إيران نفسها مدافعاً عن شيعة البحرين والإصلاح السياسي في البلد الملكي الذي تحكمه عائلة سنية وانتقدت الحكومة الإيرانية تدخل السعودية، وفي اليمن دعمت حركة الحوثيين ذات التوجه الشيعي في اليمن وخصوصاً بعد سقوط نظام صالح وأصبحت الحركة المدعومة من طهران القوة المسيطرة على الدولة اليمنية.
لكن الدعم الأبرز من قبل طهران كان عبر الحرس الثوري الإيراني الذي وفر لنظام الأسد الدعم الكبير في معركته ضد قوى الثورة السورية والمعارضة المسلحة السنية وانتهى بتمكن النظام السوري من استعادة أغلب الأراضي التي سيطرت عليها المعارضة المدعومة من تركيا والسعودية.

هل يؤثر الحصار الأمريكي على الوضع في إيران؟

 
ورغم أنه من المحتم أن تتفاقم الأزمة الداخلية المعقدة في عام 2019. اعتاد القادة الإيرانيين إلقاء اللوم على العقوبات الأمريكية التي أعادت إدارة ترامب فرضها في أواخر عام 2018. وبالفعل ينجح ذلك في التنفيس عن التأزم والاضطراب داخل إيران، لكن الإجراءات الأمريكية، مثلما هي مؤلمة بالنسبة للاقتصاد الإيراني تعد هامشية بالنسبة للتأزم السياسي المرتقب الذي يضع طبقة رجال الدين وجماعاتهم من الحرس الثوري ضد شعب كبير لا يهدأ، ولا
يتوقف عن الاحتجاج منذ زمن طويل، وسيؤدي ذلك التأزم الداخلي لتراجع كبير على المستوى الإقليمي بالنسبة لإيران.
وتعد إيران بلداً فريداً من نوعه فلديها طريقتها الخاصة في إدارة استراتيجية السياسة الخارجية استناداً لتوقعات لأمتها بالتقدم والازدهار، وتصور النخب الحاكمة حول كيفية التعامل مع التهديدات، وسبل الحفاظ على مصالحها الوطنية والأمنية، ووضعها الجغرافي وموارد الطاقة، وبصرف النظر عن كل الفرص، فإن الجغرافية الإيرانية (التي تقع في قلب النظام الإقليمي ومركز الطاقة الدولي) والاعتبارات الاجتماعية – التاريخية (كونها شيعية وفارسية) أدت لبعض القيود الاستراتيجية مثل تباعد المصالح مع جيرانها وكذلك تباعدها مع القوى العالمية، وأدى ذلك لسياسة إيرانية خارجية متقبلة ومتناقضة في مبادئها، فهي مثلاً تدعم انتفاضة البحرين وتحارب الانتفاضة السورية.
وعلى الصعيد الداخلي يبدو أن الغالبية العظمى من الشعب الإيراني قد تخلت عن أفكار الجمهورية الإسلامية، وتعاني من قائمة طويلة من المظالم ولكنها ليست جديدة بدءاً من التصورات الاجتماعية التي تخنق الحريات الشخصية والإدارة غير الكفؤة إلى المحسوبية، والفساد الشامل الذي يستفيد منه القليلون، يشعر الجمهور الإيراني بالتململ وحالات الاحتجاج تتزايد بدءاً من أصحاب المعاشات التقاعدية والعمال غير المدفوعين إلى الناشطين المناهضين لفرض الحجاب – وهي أحد أعراض النموذج السياسي الفاشل.
ومع بلوغ الجمهورية الإسلامية الأربعين في فبراير الماضي، من الواضح أن أول ثيوقراطية في العالم في العصر الحديث غير مرغوب فيها في بلدها. وفي غياب أي مبادرة تغيير سياسي من قبل النظام، فإن عام 2019 سيُظهر مرة أخرى استياء الشعب الإيراني الذي أصبح مستاءً من إنفاق موارده في التدخلات الخارجية بدلاً من الإنفاق على البنية التحتية.
ورغم زيارات القادة الإيرانيين للعراق وتركيا وسوريا باستمرار يبدو أن العزلة الإيرانية تتزايد بالفعل، فتركيا هي منافس إقليمي والعراق وسوريا أضعف من أن يشكلا محوراً قوياً مع إيران كما أن الميليشيات اليمنية المدعومة من طهران وحزب الله اللبناني يعتمدان على الدعم الإيراني ولا يشكلان أيضاً سنداً حقيقياً يمكن أن تستند عليه طهران خارج حدودهما المحلية.

مصر.. شروط استعادة الدور الإقليمي تكمن في الداخل

ترغب مصر في إشراك نفسها بالشؤون الإقليمية لكن هذه الرغبة تزيد وتنقص وفقاً لمدى استقرارها في الداخل.
واليوم، بعد سنوات من الفوضى السياسية منذ الربيع العربي وعودة الجيش إلى السلطة، فإنَّ السياسات الداخلية في مصر قد استقرت، بحسب تقرير لمركز ستراتفور.
كما أنَّ الاقتصاد قد عاد إلى الانتعاش مع استقرار مؤشرات الاقتصاد الكلي بعد قرب انتهاء برنامج طموح لصندوق النقد الدولي مدته 3 سنوات، حسب وصف التقرير الأمريكي.
لذا، فبينما كان العقد الأخير فترة تركيز على الوضع الداخلي لمصر، تبدو الآن في وضع يمكّنها من العودة لدورها التاريخي بوصفها «قوة متوسطة»، حسب وصف التقرير.
وسلكت مصر، خلال معظم تاريخها الحديث، نهجاً يوصف باعتبارها قوة متوسطة استراتيجية بالشرق الأوسط، فشاركت في صراعات عديدة أو توسطت فيها، وقدمت دعماً دبلوماسياً للحلفاء الذين يسعون للاستفادة من ثقل البلاد.
وتشغل مصر موقعاً محورياً في العالَمين العربي والإسلامي، مع خط ساحلي واسع بطول 3 ممرات مائية رئيسة: البحر الأحمر، والبحر المتوسط، ونهر النيل.
كما أنَّ لديها أكبر قوة عسكرية عربية، وضمنها بَحرية ضخمة وسلك دبلوماسي متطور، ولديها تأثير ثقافي وديني لا يضاهى كذلك.

مصر كانت قوة إقليمية قبل وقت طويل

وفي حين أنَّ السعودية ودول الخليج الأخرى كانت تميل إلى أن تكون أكثر الدول العربية ظهوراً بالدبلوماسية العامة خلال السنوات الأخيرة، فالحكومة المصرية كانت قائداً إقليمياً قبل وقت طويل من إنشاء دول الخليج ذاتها، وقبل أن تكتشف النفط الذي يغذي قوتها الآن.
ثقافياً، تحظى مصر -صاحبة أكبر عدد سكان في العالم العربي بأكثر من 100 مليون نسمة، آخذين في النمو بسرعة- بأهمية قصوى في العالم العربي، والعالم الإسلامي الأوسع؛ واستغلت موقعها لنيل المكتسبات من القوى العظمى.
وقد أكسب هذا الأمر مصر مساعدات عسكرية واقتصادية كبيرة، بالإضافة إلى الدعم الدبلوماسي من جميع الأطراف، لأنه لم يكن أحد من القوى العالمية راغباً في استعداء القاهرة والمخاطرة بخسارة الوصول إلى قناة السويس أو الجيش المصري القوي واقتصاد مصر وسوقها الاستهلاكية الكبيرة.
واليوم، تواصل مصر هذا التوازن، إذ تتلقى أكثر من مليار دولار سنوياً من المساعدات العسكرية الأمريكية، في حين تشتري بالوقت ذاته معدات عسكرية روسية، وتستكشف قدرات تطوير الطاقة النووية مع موسكو.
وتضخ الصين أيضاً استثمارات في مصر، واضعةً نصب عينيها سوقها الاستهلاكية وبيئتها التصنيعية، ولضمان سهولة الوصول إلى البحر الأحمر وقناة السويس بوصفهما جزءاً من مبادرة الحزام والطريق الصينية.
ومع ظهور مصر بوصفها لاعباً إقليمياً أكثر ثقة، فسوف تجد هذه القوى العالمية الثلاث نفسها أيضاً تتنافس للحصول على اهتمام مصر؛ ولكن يظل لها منافسون إقليميون أقوياء وأكثر تأثيراً في قضايا المنطقة.
وبالقدر نفسه الذي يصعب معه الجدال بشأن القوة المتأصلة في مصر، فكذا الحال مع نقاط ضعفها.
ومشكلة مصر الكبرى كانت تأتي من الداخل، ففترات النضال السياسي والمشكلات السياسية والاقتصادية الداخلية في مصر قوَّضت، باستمرار، قدرتها على العمل بوصفها قوة كبيرة ووسيطاً بين الدول الإقليمية.
وركزت القاهرة في عهد السيسي اهتمامها وأولوياتها على محيطها الأقرب، وتجنبت الوقوع في فخ الإغراء الذي كان يمثله المشرق العربي لمصر دوماً، وخاصة سوريا التاريخية أو منطقة الشام  التي كانت تجتذب دوماً التدخل المصري.
وهو الإغراء الذي وصفه الجغرافي المصري الشهير جمال حمدان بقوله إن مصر تقع في إفريقيا وتنظر إلى آسيا، في إشارة لتورطها الدائم تاريخياً في أحداث المشرق العربي، لاسيما منطقة الشام التاريخية.
وسعت مصر، مؤخراً لتقليل التوترات مع جيرانها الجنوبيين، السودان وإثيوبيا، فيما يخصّ سد النهضة الإثيوبي الكبير الواقع على نهر النيل 
وقد دفعت الحاجة إلى إيجاد حلول لضمان الإبقاء على وصول المياه الكافية للري والشرب، إلى هذا النهج الأكثر براغماتية، وكذلك كانت جارتها الغربية، ليبيا، في الآونة الأخيرة إحدى التحديات كنقاط ساخنة للتمرد المسلح.
ولسنوات عديدة، وفرت مصر الدعم العسكري والدبلوماسي لقائد ما يعرف بالجيش الوطني الليبي، خليفة حفتر.
كما قصفت القوات الجوية المصرية، التي تتعاون بهدوء مع الإمارات العربية المتحدة، الميليشيات الإسلامية شرقي ليبيا، في سعيها لإيقاف التمرد المسلح من التسرب إلى الحدود الليبية المصرية المليئة بالثغرات.
لكن تخاطر المشاركة المصرية الأعمق في ليبيا بإثارة اعتراض قوى الصحراء الكبرى مثل الجزائر والمغرب.
كما أعادت مصر تأسيس نفسها بوصفها فاعلاً أساسياً بمساعدتها لإسرائيل والولايات المتحدة والدول العربية على التفاوض بين الأطراف الفلسطينية المتناحرة.
وفي سعي مصر لإعادة تأكيد نفسها بوصفها قوة متوسطية، فقد أصبحت أيضاً لاعباً أساسياً في نشاط النفط والغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث أعطت اكتشافات حديثة ضخمة القاهرة آمالاً في اكتشاف المزيد من الهيدروكربونات.
لكن استعادة مصر دورها الإقليمي بهذا الشكل، يحمل مخاطرة بخلق شقاق مع القوى الإقليمية الكبرى مثل السعودية وتركيا وإيران والإمارات، التي كانت فاعلة في المنطقة خلال الوقت الذي كان فيه تركيز مصر منصباً بشكل كبير على الداخل.
ولهذا يرجح أن تظل مصر قوة إقليمية محدودة أو متوسطة، ولا يتوقع أن توسع هذا الدور لتتحول لقطب إقليمي مثل السعودية أو تركيا أو إيران.

السعودية.. المملكة الكبيرة تبرز على الساحة

ربما تصبح السعودية أهم القوى العربية التي تشكّل الشرق الأوسط وتؤثر فيه، ومنذ تولي الملك سلمان العرش في عام 2015، تغيّرت ثقافة وأولويات البلاد، سواءٌ على الصعيد الداخلي أو الخارجي بالنسبة للسياسة الخارجية للمملكة، ففوائضها النفطية الهائلة ومساحتها الكبيرة ورمزيتها كقلب العالم الإسلامي واحتفاظها بالمقدسات في مكة والمدينة وتحالفها مع الولايات المتحدة كل هذه العوامل جعلتها قطباً إقليمياً فاعلاً في المنطقة.
وفي الوضع الراهن لم تعد القرارات الخارجية تمتاز بالبطء والتشاور الحذر –مثل عمليات اتخاذ القرار الأخرى في المملكة– بل أصبحت أكثر ديناميكية (أو ربما أكثر تذبذباً) برعاية الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد الذي أصبح واجهةَ السعودية أمام العالم، كما يقول تقرير لموقع «ستراتفور» الاستراتيجي الأمريكي.
لكن أولويات السياسة الخارجية للمملكة لم تتغير في جوهرها، وفي منطقة تعاني من الصراعات تبقى المملكة متمسكةً بالحفاظ على أمنها من التهديدات المتمثلة في الفكر الجهادي، المشاعر المعادية للحكومة والتهديدات الأمنية الخارجية القادمة من إيران.
وبحسب «ستراتفور» فإنه علاوةً على ذلك تسعى السعودية إلى تكريس نفسها كقوة فاعلة في الشرق الأوسط، يمكنها أن تتحدى خصومها (مثل إيران وتركيا) عبر كسب التأييد ضد هؤلاء الخصوم، وإن كانت تتعاون معهم حين تستدعي الضرورة. وتظل السعودية متمسكة بالحفاظ على مظلتها الأمنية تحت حماية الولايات المتحدة، لكنها أيضاً تنوِّع مجموعة شراكاتها الاقتصادية والأمنية، بحيث لا تكون معتمدةً بشكل كلي على واشنطن. وأخيراً، وبعد الأحداث الأخيرة التي شكلت ضغطاً على سياستها الخارجية، تتطلع السعودية إلى تغيير في العام الحالي وتأمل أن تحقق فيه أمنها من تهديدات بلدانٍ مثل إيران، رغم أنها قد تفعل ذلك دون الكثير من الصخب مثلما كان الحال في عامي 2017 و2018.

سنتان من التوتر في المملكة

وبحسب الموقع الأمريكي، أصبح تمثيل محمد بن سلمان للمملكة عبئاً متزايداً عليها. في عام 2017، قادت السعودية حملة حصار ضد قطر واعتقلت بشكل مؤقت رئيس الوزراء اللبناني، وقطعت بعض علاقاتها الاستثمارية مع ألمانيا. بالطبع كان لبعض القضايا التي اعتبرتها السعودية إقليميةً تماماً تأثيرٌ على العلاقات الخارجية للمملكة. من هذه القضايا مثلاً كانت حملة مكافحة الفساد، التي بدأت في عام 2017، واعتقلت فيها السلطات السعودية عدداً من كبار رجال الأعمال المحليين، إذ أدى ذلك إلى إثارة مخاوف المستثمرين الأجانب من دور القانون في المملكة.
وفي عام 2018، دخلت السعودية في خلافٍ دبلوماسي مع كندا، بسبب تغريدةٍ بسيطة حول سياسات الرياض تجاه حقوق الإنسان. ثم كان بالطبع السخط العالمي على جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول.
لكن ووسط محاولاتها لتخفيف الضرر الناجم عن مقتل خاشقجي، سعت السعودية في عام 2018 أيضاً إلى تهدئة العواصف التي أثارتها في عام 2017. ففي بلاد الشام مثلاً، فتحت المملكة خزائنها لتزويد الأردن بكمية كبيرة من المساعدات، بعد سنة من رفضها تجديد حزمة المساعدات التي تقدمها لعمّان. كما عرضت أيضاً ضماناتٍ سياسية واقتصادية للبنان بعد اضطراب العلاقات الثنائية بين البلدين في عام 2017، (في الحقيقة امتدح رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري أهمية الروابط العميقة بين السعودية ولبنان، وذلك خلال مقابلة سابقة خلال هذا الشهر)، بحسب الموقع الأمريكي.
وعلى الصعيد الخليجي لا تزال السعودية تأمل في فرض نفوذها على قطر، كما يتضح في استمرار الحظر الذي تفرضه دول مجلس التعاون الخليجي على الدوحة، لكن قرار الرياض الأخير باستضافة آخر قمة للمجلس على مستوى زعماء الدول -رغم أن قطر اختارت أن يمثلها ممثلها في الجامعة العربية وليس الأمير بنفسه- يشير إلى مساعي المملكة لإغواء الدوحة بالعودة إلى المظلة الإقليمية.

فظائع حرب اليمن خلقت ضغطاً دولياً على المملكة

ورغم أن المملكة لن تتردد في استخدام المزيد من القوة العسكرية في اليمن ضد المتمردين الحوثيين، المدعومين من إيران إن شعرت بأنها لن تعاني من أي تداعيات دبلوماسية على علاقاتها مع حلفائها الغربيين، رغم ذلك، فإن فظائع الحرب الأهلية في اليمن خلقت درجةً كافية من الضغط الدولي، تجبر الرياض على الخضوع لمحادثات السلام التي فتحت المجال أمام حل سياسي للصراع الذي طال أمده.
يتوقع أن تواصل السعودية خلال عام 2019 التأكيد على علاقاتها الوثيقة مع حلفائها الشرق أوسطيين، كحصن منيع ضد إيران. ورغم أن الأولوية القصوى للمملكة في تشكيل تحالف مناهض لإيران تتمثل في إقامة علاقات مع البلدان العربية الأخرى، التي تخشى اتساع النفوذ الإقليمي لطهران بالمنطقة، إلا أن إنشاء المزيد من العلاقات غير التقليدية أصبح وشيكاً أيضاً. لا شك أن العلاقة التي تجتذب الاهتمام الأكبر خلال عام 2019 هي علاقة المملكة بإسرائيل.
خارج المنطقة، لا تزال المملكة العربية السعودية تتبنى أسلوبها المتمثل في تقديم الأموال، ومد النفوذ السياسي في بلدان مثل باكستان، وهو أمر من غير المحتمل أن يتغير خلال عام 2019. ورغم أن إسلام آباد لم تقدم إلى الرياض أي التزامات فعلية تتعلق بالسياسة الخارجية والأمن مقابل الموافقة على القرض السعودي، البالغة قيمته عدة مليارات دولارات خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول، إلا أنها منحت المملكة شيئاً تريده بالفعل، ألا وهو تأكيد قوة واستقرار المملكة خلال مؤتمر «مبادرة الاستثمار المستقبلي» الذي عُقد هذا العام، وهو المؤتمر الذي انسحبت منها العديد من المؤسسات الدولية في أعقاب مقتل جمال خاشقجي.

إسرائيل.. قوة صاعدة في الشرق الأوسط الملتهب

يبدو أن إسرائيل التي تحظى بالتفوق العسكري في المنطقة تكسب المزيد من الحلفاء العرب الجدد كما تزدهر مكانتها السياسية والاقتصادية على حساب جيرانها العرب لكنها على الرغم من ذلك لا تأمل بتحقيق أهدافها الاستراتيجية قريباً.
ولمحاولة الحفاظ على أمانها في محيط مشتعل لجأت إسرائيل للمحافظة على الوضع القائم، وأدى ذلك لحمايتها من الأخطار الخارجية لكن أفقدها كذلك روح المبادرة التي تشكل أساس التأثير الإقليمي، وبهذا يتغلب الاعتبار الأمني على السياسي وتبرز إسرائيل كقوة عسكرية ونووية وكذلك كمركز اقتصادي مزدهر، لكنها غير قادرة على ترجمة تفوقها العسكري كمركز الثقل في المنطقة حتى الآن
وتبدو التدخلات العسكرية الإسرائيلية خارج أراضيها كما لو كانت سلوكاً خائفاً ينظر بحذر شديد لتركز إيران في سوريا وحصول حزب الله على سلاح متقدم باعتبارها أخطار كبيرة على أمنها، رغم أن ذلك لا يعني تغيراً كبيراً في موازين القوى الإقليمية.
وفي المشهد السوري كذلك تبدو إسرائيل كما لو كانت مجرد سرب من الطائرات التي تشن غارات من حين لآخر بدون أن تحقق أهدافاً استراتيجية وسياسية.
بالمقابل فإن خصم إسرائيل في الشمال وهو التحالف الإيراني السوري مع حزب الله اللبناني يظهر وكأنه في وضع إقليمي يزداد تحسناً، رغم أن الوقائع على الأرض تقول غير ذلك.
وفي الجنوب يبدو أن تفاقم الحصار في قطاع غزة ينذر بانفجار مواجهة مع إسرائيل يمكن أن تندلع في أي وقت على الرغم من مبادرات التهدئة المصرية الدائمة.
كما يبدو الانسحاب الأمريكي من سوريا كعامل خطر على مصالح إسرائيل، حيث إنه ينسف فرص إغلاق الحدود العراقية السورية بحيث يحرم طهران من ممر بري يصلها بلبنان ويمر بسوريا.
وبخروج القوات الأمريكية من سوريا تبدو إسرائيل بدون حليف على الأرض، فيما تتحالف روسيا مع النظام السوري وإيران خصوم إسرائيل الإقليميين.
وعلى الرغم من التطور الكبير في العلاقات بين إسرائيل والعديد من الدول العربية، لا سيما في الخليج، وبناء شراكات سرية معها في مواجهة تحديات إقليمية، فإنه لا يوجد ما يدلل على أن هذه العلاقات ستنتقل إلى العلن بسبب الجمود في مسار حل القضية الفلسطينية.
ويتوقع فشل التفاهمات مع حركة حماس في حال لم يكن هناك تعاون دولي وعربي لمعالجة الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في القطاع، حيث يشدد على وجوب أن تعمل إسرائيل على «تمهيد الظروف أمام عودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع.
وتدلل استطلاعات الرأي المتواترة على تهاوي قيمة السلام وحل الصراع مع الفلسطينيين في نظر الجمهور الإسرائيلي.

القيادة ليست أمراً سهلاً

بناءً على ما سبق تبدو إسرائيل كقوة صاعدة إقليمياً في المنطقة وتعيش عصرها الذهبي، بفضل التحالفات الجديدة التي تقيمها مع محيطها من الدول العربية المختلفة، بينما تعاني بقية البلدان المرشحة للصعود إقليمياً من تحديات جوهرية وتفتقد للحلفاء الدوليين المؤثرين بالدرجة التي تحظى بها إسرائيل، وتكتسب كذلك حليفاً جديداً هو المملكة السعودية، فبعد أن كانت العلاقة بينهما تتسم بالعدوانية، بدأت في التحول، حيث إن كلاهما لديه أسبابه ومبرراته لاحتواء إيران في المنطقة.
لكن في الوقت ذاته تظهر في خضم تحديات داخلية هائلة في ظل عدم وجود تسوية مع الفلسطينيين، ولا تكفي العلاقات الرسمية مع الدول العربية في تجاوز الرفض الشعبي الواسع لها في المحيط الإقليمي، وإضافة لذلك لا تتمتع إسرائيل بجغرافيا واسعة وعمق استراتيجي ولا قوة سكانية تؤهلها للصمود في مواجهة الأزمة الديموغرافية التي تعاني منها.
وفي المقابل تنغمس تركيا وإيران في قضايا ونزاعات إقليمية تستهلك جهودهما مثل سوريا والعراق واليمن، لكنهما لم ينجحا في تكوين تحالفات كافية لقيادة المنطقة.
وتتنافس تركيا وإيران في كسب جهات فاعلة من غير الدول في جوارها المباشر. ففي المشرق العربي وسوريا والعراق واليمن، بينما تبقى السعودية أكثر اعتماداً على الحلفاء الرسميين مثل القاهرة وأبوظبي.
-------------------
موقع عربي بوست