وعلى الرغم من أن السلفية المعاصرة هي مسار ديني في طريقة التعامل مع الدين؛ يبدو أن لها سياسة وإستراتيجية، يَعْلَمُها من أعاد انبعاثها إسلاميًا خلال العقود الأخيرة. هذا المسار الديني السلفي تغلغل في مجتمعات الشرق البائس، ثم انتقل ليكون ظاهرة دينية عالمية، استحوذت على اهتمام العالم بعد أحداث أيلول/ سبتمبر2001 التي قام بها فريق السلفية الجهادية، التي هي أحد مواليد السلفية المعاصرة الكثيرة، بعد عمليات إرهابية عدة سبقت ذلك الحدث الإرهابي العالمي.
تقوم السلفية، بالرغم من تعقيداتها، على استدعاء الماضي إلى الحاضر، لتحيا به كنمط حياة معاشي من جهة! وكأسلوب في فهم الإسلام من جهة أخرى! وهي ليست عودة إلى الماضي، كما يظن كثيرون، إنما هي استدعاء للماضي ليكون حَكَمًا على الحاضر!! بأسلوب حياة يماثله! وطريقة تفكير تحاكيه. هذا الاستدعاء الماضوي للتاريخ يجعل السلفية المعاصرة تستقي من أحداث الماضي حلولًا لوقائع معاصرة! لا تشبه ظروف حاضرنا، ولا تتقاطع مع نوازله!
السلفية تفكيكًا وتركيبًا! ثم نقدها؟
بما أننا قلنا إنّ ظاهرة السلفية المعاصرة غدت ظاهرة مركبة؛ فالواجب أن نقوم بتفكيكها، ثم تركيبها، لنعرف كيف وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم من طريق مسدود، لا يمكنها أن تستمر بالوهج الذي كانت عليه خلال العقود السابقة، ويمكن أن نقول، بعد تصريحات وليّ العهد السعودي حول الإصلاح الديني: إنها دخلت العناية المركزة! لكن التوقعات بإعلان وفاتها تقول أيضًا إن ذلك سيستغرق سنوات طويلة، قد تتحول في نهايتها إلى جماعة هامشية، بعد الوعي الذي قدّمته التكنولوجيا الحديثة في فهم الحياة والتعرّف إلى الآخر، وجعل العالم أصغر من قرية صغيرة.
عندما نفكك السلفية المعاصرة، سنجدها تتكون من عناصر ثلاثة، تمدّها بالوجود، هذه العناصر هي: (نص نبوي + شخصيات + ماضي = السلفية المعاصرة)
النص: تعتمد السلفية على النص النبوي (السنّة النبوية)، في فهمها للإسلام، وتقديمه، والتعبير عنه، وإذا كان شيخ الأزهر في تنمّره على رئيس جامعة الأزهر قال: “إن السنّة ثلاث أرباع الإسلام”! فإن السلفية المعاصرة تراها أكثر من ذلك بكثير! لذلك هي تنسب نفسها إلى جانب ظني الثبوت، لا إلى القرآن القطعي الورود! وتصف نفسها بـ “أهل السُنة والجماعة”، وتعمل على احتكار هذا المسمّى.
وكما نعلم أن السنّة النبويّة 99% منها أحاديث آحاد ظنية الثبوت، وأما المتواتر فيها فلا يتعدى بضع عشرات من الأحاديث ليس إلا. فلا يمكن، عقلًا واعتقادًا، أن يُبنى دينٌ أو منهج على دليل ظني! وهذا الظن إنْ كان من حيث الشريعة فهو -عقليًا وعلميًا- قابلٌ للشك والتشكيك بوصفه ظنيًا؟ وكذلك بالنسبة إلى الاعتقاد، فالظنّ لا يمكن أن تُبنى عليه عقيدة، لأنّ العقيدة ليست اجتهادًا ظنيًا، إنما هي يقين ثابت، قائم على نصّ قطعي الورود والدلالة.
حتى هذا النص -الأحاديث- الممنوع الاقتراب سلفيًا منه بالنقد اليوم، كان في قرون السلف الأولى محلّ نقد وتمحيص، وقد وضع له السلفيون التاريخيون ميزانًا للقبول، بحيث لا يخالف نصًّا قرآنيًا، ولا يخالف أيضًا نصًّا نبويًا أقوى حجة منه، ولا يخالف كذلك المنطق العقلي. وهذا ما فعلته أمُّنا عائشة وغيرها من الصحابة الأوائل، في ردّ أحاديث نُسبت إلى النبي ﷺ، وكذلك كان منهج الإمامين أبي حنيفة ومالك في التعامل مع الأحاديث! فكيف نقدّس أو نتعبّد بحديث ظني، أو مُخْتلف فيه، أو مخالف للقرآن الكريم؟ وإذا قبلنا حديثًا ما في مكارم الأخلاق، فهذا لا يعني تمرير قبول حديث آخر يُشبهه من حيث الثبوت في التشريع والاعتقاد.
لكن السلفية المعاصرة تعاني حالة خوف مرَضي، ووسواس ديني؛ إذ تعتقد أن نقد السنّة النبوية أو ردّ بعض أحاديثها، نتيجة الشروط الثالثة سالفة الذكر، ليس إلا مقدّمة لهدم بنيان الدّين! وبنقدها سيتهاوى الدين كله! وهذا الظن ناتج عن عدم ثقة بالدين أساسًا، والأهمّ في هذا الخوف المرَضي أنها تعتقد بأن نقد النص، كرواية قابلة للخطأ والصواب والوهم والتثبّت، هو هدم للعنصر الثاني الذي تقوم عليه السلفية المعاصرة المتمثل بالشخصيات أي الرجال، لأنه سيوصلنا إلى نتيجة أن هؤلاء الرجال أخطؤُوا، وهذا يعني هدم البُنيان السلفي كاملًا! ولذلك قالوا: “كلّ ما اتفق عليه المحدثون، من حيث الصحة، ممنوع نقده”! متجاهلين أدوات المعرفة التي وفرتها التكنولوجية الرقمية في عمليات البحث والمقارنة بآلاف النصوص. ولكي يخرجوا من أزمة تعارض أحاديث يقوم عليها منهجهم، جاؤوا بفِرية عظيمة فقالوا: “السنّة قاضية على القرآن”!
الشخصيات: العنصر الثاني في تركيب ظاهرة السلفية هو الشخصيات، أي الرجال، وهم مجموعة ذكورية تنتمي إلى القرون الثلاثة الأولى، أُطلق عليهم اسم “السلف الصالح”!، أوّلهم صحابة النبي ﷺ، ثم التابعون ثم تابعو التابعين، وصولًا إلى منتصف القرن الهجري الثالث الذي تم فيه التدوين الإسلامي.
لكن هؤلاء السلف، مع احترامنا لهم، لم يكونوا على مستوى فهم واحد، ولا على رأي واحد، بل تخاصموا سياسيًا، وتشكّلوا في فرق مذهبية بسبب الخلافات السلطوية! وبعضهم قتل بعضهم الآخر! وتعريف الصحابة، عند السلفية المعاصرة وغيرها، تعريف غير مستقيم واقعيًا ولا علميًا، ويحتاج إلى إعادة نظر، فلا يُعقل أن مجرد رؤية النبي، لحظات أو ساعات أو أيامًا، تمنح صاحبها لقب “صحابي”، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، كيف لمن حمل سيفه على الصحابي الآخر، واستحلّ دمَه، أو ثَبَتَ كذبُه على النبي، أن يكون صحابيًا؟! ونتيجة فرض المفهوم السلفي لمعنى الصحابي وصلنا إلى كوميديا سوداء، ففي دمشق هناك قبرٌ كُتب عليه: “هذا قبر الصحابي حِجر بن عديّ رضي الله عنه، قتله معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، لأنه يحبّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه”!! فتأمّل يا رعاك الله!!
ولكيلا تُنقد صنمية الصحابة، منحوها هالة قدسية، فقالوا: “إن الصحابة كلّهم عدول ثقات”، مستعيرين هذه الفكرة من الشيعة الذين قالوا بعصمة الأئمة! وكلا القولين يمنح العصمة والقدسية لبشر، وهذا ليس صحيحًا. ولكي يشرعنوا قدسيّة وعدالة الصحابة، نسبوا قولًا إلى النبي: “خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم”. وبهذا القول؛ نصل إلى العنصر الثالث، ونحن نحلل السلفية المعاصرة ونركبها فننقدها.
الماضي: الاعتقاد السلفي المعاصر يرى أن الماضي، أي تاريخ الإسلام، هو الأنقى والأمثل للمعرفة الإيمانية، وهو خير القرون، لكن هذا التاريخ الذي دوّنه رجالٌ من السلف يقول لنا غير هذا، يقول لنا: إن أسوأ الحروب الأهلية الإسلامية وأكثر ضحاياها كانت في القرن الأول، كاغتيال الخلفاء الراشدين وحروب الردة والمعارك بين علي ومعاوية، وصراع عليّ والخوارج، وحروب الأمويين مع خصومهم، ومذابح العباسيين للأمويين، وبسبب تلك الحروب والصراعات، لم يتفق المسلمون حتى يومنا هذا! فكيف تكون تلك القرون خير قرون الإسلام؟!!
إن أعظم جريمة في تاريخ الإسلام كانت في القرن الأول، إنها وقعة الحرة عام 63هـ، عندما أرسل يزيد بن معاوية جيشه إلى المدينة التي نكثت بيعته، ووقعت أكبر مذبحة أهلية، وقُتِلَ فيها عدد كبير من الصحابة وأبناء الصحابة والتابعين، واستباح الجيش المدينة ونساءها وفتياتها، ثلاثة أيام! وفي القرن الأول أيضًا، حاصر الحجاج بن يوسف الثقفي مكة، سنة 73، فأصابها جوع شديد! ثم ضربها بالمنجنيق! فهدم الكعبة، وقتل عبد الله بن الزبير وصلبه، وقبلها كانت مذبحة كربلاء سنة 61 للهجرة وقطع رأس الحسين! أليس هذا كله في خير القرون؟!
وذبح أبو العباس السفاح مؤسس الدولة العباسية ما تبقى من ذريّة بني أمية، ثم أمر جنوده بنبش قبور الأمويين، فنبش قبر معاوية بن أبى سفيان، وقبر يزيد بن معاوية، وقبر عبد الملك. هذا كله في “خير القرون”، على حد قولهم! إضافة إلى أن هذه الماضوية تذهب بعكس الاتجاه القرآني ومراده، إذ إن القرآن الكريم ذمّ الآبائية التاريخية، ومدح المستقبلية، وفي الصراع الآبائي/ الأبنائي، انحاز القرآن إلى الأبناء: إلى المستقبل لا إلى التاريخ: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا}. لقمان:15، {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ. وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}. الزخرف:22+23
مشكلة السلفية المعاصرة أنها جعلت تاريخ الإسلام دينًا، لا يجوز الخروج عنه!
النتيجة،
تقديس هذه العناصر الثلاثة، وعدم قدرة السلفية المعاصرة على إقناع غيرهم بها، دفعها لكي تعيش العزلة الشعورية مع الماضي، وهذه العزلة دفعتهم -بشكل أو آخر- إلى العمل على إيجاد عزلة جغرافية! ولصعوبة ذلك، صنعوا مجتمعات موازية للمجتمعات الإسلامية المعاصرة، مجتمعات ماضوية، فتميزوا بالشكليات، حيث أصبح لهم زيّ محدد، يميزهم عن الآخرين في المجتمع (نساء ورجالًا)، كاللحية والثوب القصير للرجال، والجلباب الأسود للنساء، ثم جاؤوا بتميز عن بقية المسلمين، حتى في العبادات، وكتب لهم كبيرهم ومنظرِّهم ناصر الدين الألباني كتاب “صفة صلاة النبي”، حتى يتمايزوا عن بقية المسلمين في أداء العبادة! وكذلك في الحياة الزوجية، صنع لهم قاموسًا من خلال كتابه “آداب الزفاف في السنّة المطهرة”، حتى في الموت كتب لهم كتابًا “أحكام الجنائز وبِدعها”.. وغيرها كثير.
لكن الحداثة وأدواتها المعرفية وضعتهم أمام مأزق معاصر، فكيف يخرجون منه؟
في البداية، رفضوا الحداثة، معرفيًا وتكنولوجيًا، ولكن أمام زحفها نحو المجتمعات والبيوت، وجدوا الحل بأن يأخذوا منها التكنولوجيا، ويرفضوا منها المعرفة! فشطروها إلى شطرين، وقالوا شطر نتعامل معه خدمًة لنا، كالإنترنت والموبايل واللابتوب، ومواقع التواصل الاجتماعي، لنشر أفكارنا، وندعو: “سبحان من سخر لنا هذا”! وأما القسم المعرفي فنرفضه، لأنه تَشَبّه بالكافرين!
ورفض المعرفة الحداثية له أسبابه، فالمعرفة والثقافة الحداثية، لو قبلوا بها، فسيقبلون بأدواتها، ومن أدواتها الديمقراطية، لذلك حتى يشيطنوا الديمقراطية، قالوا بأنها كفر! فالإيمان بالديمقراطية سيهدم نظام البيعة التاريخي الذي يؤمنون به، والديمقراطية لا تقوم على السمع والطاعة، كما في منهجهم، إنما على الحوار والجدل، وهذا ممنوع عندهم، لأن القاعدة عندهم تقول: “ما أُوتي قوم الجدل إلا ضلّوا”، فضلًا عن أن الديمقراطية تعني تداول السلطة والتنافس عليها، وهم عندهم بيعة ولي الأمر أبدية حتى موته. والحلّ لقطع السبيل على أدوات الحداثة المعرفية هو القول إن الديمقراطية “كفر وشرك”. ونحن نقول لهم، بل الديمقراطية شراكة لا شِرك.
ثم، إن الانزياح إلى ثقافة الحداثة يعني التسليم بقضايا حقوقية، منها احترام الرأي الآخر، وحرية الاعتقاد، وهذا يهدم لهم ركنًا سلفيًا، يتمثل بقتل “المرتدّ”، وأيضًا في الحقوق ستأخذهم الحداثة إلى القول بالمساواة بين الرجل والمرأة، وتلكم طامة كبرى، عندهم، لأن السلفية المعاصرة تقوم على ذكورية فاقعة، ولا ترى مكانًا للمرأة إلا البيت والمتعة والخدمة. ولكي تخرج من هذا المأزق، حرّمت الحداثة! وشيطنت أدواتها المعرفية! فكلّها تقليد لليهود والنصارى، وهذا منهيّ عنه في أدبيات السلفية المعاصرة.
الخلاصة
السلفية المعاصرة كانت خطرًا على الإسلام، وغدت اليوم خطرًا على الإنسانية، ولا يمكن أن تجد إطلاقًا راياتِها السود فوق مبنًى للبحث العلمي، أو أكاديمية علمية، أو منظمة إنسانية، أو جامعة للعلوم الإنسانية، إنما حيثما تكون راياتها السود يكون الخراب، والدمار، والتهجير، والتفجير.
-----------------
مركز حرمون