العودة للشعر عبر"قصائد نسيتها الحرب في جيب الشاعر"جان دوست

عارف حمزة

بدأ الشاعر والمترجم والروائي الكردي السوري جان دوست حياته الكتابية مع الشعر بإصدار مجموعتين شعريتين باللغة الكردية، واشتهر بهما شاعرا بين الشعراء الكرد الذين يكتبون الشعر بالكردية وليس بالعربية، وهذا يندر لدى الكتاب السوريين من أصول كردية، إذ إن كثيرا منهم كتب الشعر باللغة العربية.

بعد ذلك انشغل دوست بالترجمة من العربية إلى الكردية، والعكس، فترجم بعض الأعمال للكاتب الكردي الأشهر سليم بركات والشاعر العراقي بدر شاكر السياب، وترجم من الكردية إلى العربية عددًا من الأعمال التي تعنى بالفلكلور الكردي، مثل "ملحمة مم وزين"، وكذلك قواميس في اللغتين.

ولكن جان دوست الذي ولد في كوباني شمالي حلب عام 1965 اشتهر في الساحة العربية بعد إصداره عددًا من الروايات باللغة العربية بدأها مع رواية "مهاباد وطن من ضباب" عن دار الساقي البيروتية، حتى صدور روايته الأحدث بعنوان "سيرة خبات" عن دار الفكر الدمشقية العام الماضي.
ومنذ عام 2014، تاريخ صدور روايته الأولى بالعربية، حتى عام 2020 أصدر جان دوست 12 رواية بالعربية، كأنه كان يصدر روايتين كل عام، وربما هذا يعني أنه كتب كثيرا من المخطوطات الروائية ثم قرر إصدارها في الأعوام الأخيرة، ويدلّ ذلك بطريقة أخرى على إخلاصه للكتابة بأنواعها المتعددة.
"قصائد نسيتْها الخربُ في جيب الشاعر"، الصادرة عن دار ضفاف، هي المجموعة الشعرية الثالثة والأحدث للشاعر والروائي والمترجم الكردي السوري جان دوست، ولكنها المجموعة الشعرية الأولى التي كتبها باللغة العربية مباشرة وليس بالكردية التي كتب بها مجموعتيه الشعريتين السابقتين.
وتنقسم هذه المجموعة، التي جاءت في أقل من 100 صفحة، إلى 4 أقسام. ولكن قبل الولوج إلى القصائد التي تضمها الأقسام الأربعة سنجد عنوانًا فرعيًا في عتبة الكتاب، هو أن المجموعة "سيرة شعرية". وحتى من دون هذه الدلالة المباشرة كان سيكتشف القارئ أنها سيرة شعرية لجان دوست الذي غادر سوريا نهائيًا عام 2000 إلى ألمانيا، ويحمل جنسيّتها منذ سنوات.

وبعكس السير العادية تبدأ هذه المجموعة من قسم يحمل عنوان "عتبة المنفى" حينما "قبل أعوام طويلة، أقلّتني طائرة إلى أوروبا" هربًا من رجل الأمن الذي كان يُطارده في الوطن. "وعندما مضت السنوات/ وأرهقَ حريرُ المنفى جسدي/ أدركتُ أن رجل الأمن الكلب غلبني:/ لقد سرق مني الوطن/ طواه مثل ورقة الخمس ليرات/ ودسّهُ في جيبه".
تتوالى ذكريات مغادرة الوطن أكثر من العيش في الوطن، طوال 20 عامًا قضاها حتى الآن في المنفى. وهذه "الـ20 عامًا" تتكرر في ذكرياتها كأن الماضي والمنفى كان حزمة واحدة، كأنه كان عقدين متواصلين من الغياب والعيش في هذا الغياب، وخلال ذلك كان "فأرُ المنفى/ يقرضُ روحي الغريبة/ كما لو أنّها قطعة بسكويت هشّة".
ولكن الأشياء في أثناء ذلك كانت تتبدّد في الوطن طوال غيابه. تلك الأشياء، مثل الأم والأب والقرية وأشجار الزيتون والقبور كانت توازي تبدده هو في المنفى، هو يتبدد في غيابها، وهي تتبدّد في انتظاره وغيابه. فلا تعني الغربة له أن يُغادر وطنه، بل "أن يُغادركَ الوطن/ وتقضي ما تبقى من عمرك/ في البحث عنه".

وخلال مضيّه في المنفى نجد أنه يمثل لديه توصيفات وتعريفات وتخطيطات تثقل عليها العاطفة العالية، في حين ينشغل جان دوست بإعادة إحياء ذلك الماضي الذي عاشه في الوطن، وهو زمن طويل يمتد على 35 سنة. ولكن تلك السنوات كانت سريعة على أي حال، فعادة ما يقضيها أحدنا في الدراسة والقراءات والجامعة والأفكار والأصدقاء والكتابة والحب، فبدت تلك السنوات التي أقامها في الوطن كأنها كانت في المنفى أيضًا، ما دامت مضت بعيدا عن العائلة ومسقط الرأس
وهذا ما يجعلنا نظن أن دوست سيقدم تفاصيل أكثر عن مسقط الرأس وعائلته وقريته في الأقسام الثلاثة التالية "سيرة الأنقاض"، و"قصائد نسيها الشاعر في جيب الحرب"، و"مرثيّة لحقل الزيتون" لكننا سنجد تفاصيل قليلة، وقد تكون عابرة، عن الأب وكتبه وصلواته وعكازه الذي ينكسر نصفين بسبب الحرب، وعن الأم وأزهارها وأشجارها وانتظارها الطويل، ولن نجد شيئًا عن أفراد العائلة من الأشقاء والشقيقات، إلا قليلًا عن أخته "النازحة"، ولا عن الحب والمنفى الذي تصنعه الكتب والقراءات، وهو تصوّر مشروع في قراءة عنوان من مثل "سيرة شعرية".
بدلًا من ذلك، وبخلاف ما محاه جان دوست من سيرته، سنجد تفاصيل أكبر عن الحرب التي دمّرت قريته ومدينة دراسته حلب وبلده كاملًا في ما بعد. ومع أن جان دوست لم يعش تفاصيل تلك الحرب، وذلك الفزع والخوف والعوز والدمار والحياة التي تطوى تحت الأنقاض، فإنه قدم القسم الأكبر من مجموعته الشعرية هذه عن ما لم يعشه هناك.

وكون جان دوست لم يعش تلك التفاصيل فقد تناولها بأسلوب جعله يعيشها بطريقة ما، وذلك بمزج ما عاشه مع ما حدث في غيابه، فيبدو كأنه عاش ما حدث في غيابه أيضًا. أو بمعنى آخر، بمزج الماضي الذي عاشه مع الحاضر الذي غاب عنه. "في حارتي/ صارت القنابلُ تنفجر/ حيث كان صدى القبلات يتردّدُ/ مثل الأذان/ عدّة مرات في اليوم". أو كأن يقول "البابُ نفسهُ/ الذي طرقتهُ/ على مدى أعوام طويلة/ بيدٍ مرتعشة، وغاضبة أحيانًا/ لتفتحه أمي بابتسامتها العذبة./ البابُ نفسه/ طرقته شظايا قنبلة معتوهة/ فانفتحَ على منزل يسكنه الصمت/ والخراب".
يبدو القسم الثالث الذي يحمل عنوان "قصائد نسيها الشاعر في جيب الحرب"، وهو مبادلة للعنوان الذي حملته المجموعة الشعرية، كأنه يقع خارج هذه المجموعة، وربما مكانه الأفضل لو كان في القسم الأخير، حيث يحوي قصائد نثرية قصيرة تبدو مثل حكم واعترافات نهائية. ولكنها تبقى تحمل تلك الحمولة العالية من العاطفة التي تربط بين الأقسام الأربعة كلها. "لو خيروني/ بين الوطن والمنفى/ لاخترتُ عينيك". أو "الحجر الذي تعثّرت به قدمُكِ/ وأنتِ تعبرين/ شارعنا المغبَر/ حسَدَتهُ كلُّ حجارة الحي/ حتى حجارة المحراب/ في مسجدنا القديم".
العودة إلى الشعر بعد 12 رواية جعلتنا نسأل جان دوست عن دافعه إلى العودة.
فقال للجزيرة نت "كتبت عن الحرب والثورة في سوريا 4 روايات بعد روايات عدة أخرى قبل الحرب. وعلى الرغم من اتهامي باللغة الشعرية المفرطة في الرواية فإنني شعرت بأن هناك تكثيفًا أحتاج إليه بقوة للحديث عن الحالة السورية في ظل الحرب والثورة".
وأضاف "التكثيف الشعري المبني على تفاصيل يومية صغيرة تحمل في طياتها شحنات انفعالية بالغة الطاقة غير متوفر في الرواية".
وأردف "عدت إلى الشعر لأحقق هدفي في القبض على اللحظات الهاربة التي لا يمكن للرواية اللحاق بها. وحده الشعر يستطيع تقطير الأفكار العديدة في عبارة واحدة. الحرب وعجزي عن التعبير عنها بالرواية هي التي دفعتني إلى العودة إلى ملاذ الشعر الآمن. فهو خيمتنا التي خرجنا منها إلى عالم الرواية، وإليها نعود كلما ضاقت بنا أزقة الرواية وحاراتها".
قصائد نسيتها الحرب في جيب الشاعر هي قصائد نثرية قصيرة، تُحاول المزج بين المحسوس وغير المحسوس، وكذلك بين الذي عيش والذي مرّ في الغياب، قصائد تذكرنا بالشاعر الكردي شيركو بيْكَس (1940-2013) أو حتى بالشاعر التركي ناظم حكمت (1902-1963)، في الكتابة عن ذلك التنافر بين المترادفات والحيوات والمآلات خلال المنفى والعذاب والحنين وسوء التفاهم مع العنف، قصائد قصيرة لأنفاس قصيرة خلال الحرب، عن شخصيات وأماكن هشّة ولكنها عصيّة على النسيان.
----------
الجزيرة