المماليك العلماء.. براعة في الحديث والفقه والموسيقى و الموسوعات التاريخية

الجزيرة نت

"الفقيه الحنفي المحدِّث الأمير سيف الدين أبو محمد، «نائب القلعة» بالديار المصرية".. هذا هو الأمير تَغْري بَرْمِشْ المؤيَّدي (ت 852هـ/1448م) "نائب القلعة" بالقاهرة أو مدير أمن العاصمة المملوكية والمسؤول العسكري الأول عنها؛ كما ترجم له المؤرخ المملوكي ابن تَغْري بَرْدي (ت 874هـ/1469م).

والواقع أن "ظاهرة المماليك" نفسها في التاريخ الإسلامي آن لها أن تُحرَّر من الصورة النمطية المتداولة اليوم عنهم باعتبارهم كانوا فقط رجال حرب وكَرّ وفَرّ، أو رجالات دولة يتصارعون -بلا رحمة- على سدة الحكم؛ ناهيك عن أن الصورة الموازية -التي نقدم هنا جوانب منها- كفيلة بتبديد صحة الفكرة الشائعة عن عصر المماليك باعتباره أشد العصور انحطاطا علميا وفكريا وأدبيا.
فبخلاف الشائع عنهم من كل ذلك؛ نجد أن كثيرا منهم جمعوا ببراعة بين القلم والسيف وآخَوْا بنجاح بين الكِتاب والرِّكاب! والحق أنه لا يمكن لمُلك ازدهر وأيْنع بكل تلك المعارف والموسوعات والحروب والتوسعات أن يكون أغلب قادته مجرد أرقاء جهلة، بلا تعليم أو وعْي أو بَصَرٍ بالمورد الكبير الذي يقودون جبهتيْه السياسية والعسكرية، ونعني بذلك "حضارة الإسلام".
والحق أيضا أنه من التجني الظالم تصوُّر أن طبقات وأجيالا من المماليك تمكث قرونا متطاولة ترعى المعارف وتشيع الأمن وتقيم العمائر وتنشر العمران، ثم لا تعدو أن تكون منطوية على قدر متواضع من الثقافة والمعرفة.
لا يمكن إنكار أن الجندية الصارمة هي مفتاح "عالَم المماليك"؛ ولكن عالم الجندية في تلك العهود لم يكن جافًّا على نحو ما تقود إليه التوقعات المتسرعة، فقد كان نظام التربية المملوكية بجانب طبيعته العسكرية القاسية يضم ذخيرة وافرة من المعارف الدينية. لكن يبقى الجانب الأعجب في ظاهرة "المماليك العلماء" هو تمتع بعضهم برهافة الحس الشعْري والذوق الأدبي بل والألق الموسيقي، وهذا من النوادر التي يمكن أن تثير الدهشة حتى بمعايير اللحظة الراهنة.. عسكري شاعر وموسيقي!!
ومع كل ما فات؛ تبقى مسألة تعلق المماليك بعلم التاريخ حكايةً أخرى، فقد قدم المماليك طبقة من المؤرخين الأثبات رفيعي المستوى. ولعل السبب في ذلك هو إحساس المماليك بالغربة الدائمة وخوفهم من غوائل نسيان تاريخهم وضياع منجزاتهم الحضارية، فأقاموا العمارات الفخمة الحفيّة بتخليد أسمائهم، وسجّلوا بأيديهم تاريخهم مبرزين "أيام المماليك" بما لهم وعليهم!
يُطلق اسم المماليك على الرقيق الأبيض الذي درج الحكّام المسلمون -منذ عصر الخليفة المأمون (ت 218هـ/833م) وأخيه المعتصم (ت 227هـ/842م)- على استحضاره وجلبه من آفاق وأعراق مختلفة؛ فكانوا يُجْلبون من الترك والجركس والروم والكُرْج وغيرهم ويخضعون -وهم صغار- تربية خاصة ليكونوا رجالا أشدّاء.
وقد مكّنهم التكوين المتين من التحكم في مقاليد الخلافة العباسية بعد وفاة المعتصم الذي أكثر من شرائهم، وبنى لهم عاصمته الجديدة سُرّ من رأى "سامراء"، ثم تطور الأمر -بعد أربعة قرون- في نهاية عصر الأيوبيين مع السلطان الصالح نجم الدين أيوب (ت 647هـ/1249م) ليصبحوا أكثر حضورا في مسرح التاريخ الإسلامي بوصفهم أبرز صناعه طوال قرون عديدة.
يقول ابن واصل الحَمَوي (ت 697هـ/1298م) -في ‘مفرِّج الكروب في أخبار بني أيوب‘- عن استكثار السلطان نجم الدين أيوب من المماليك: "اشترى من المماليك الترك ما لم يشتره أحد من أهل بيته حتّى صاروا معظم عسكره، ورجّحهم على الأكراد وأمَّرهم، واشترى -وهو بمصر- خلقا منهم، وجعلهم بطانته والمحيطين بدهليزه، وسمّاهم «البحرية»".
وبوفاة السلطان أيوب ومقتل ولي عهده وابنه الوحيد تُورانْشاه (ت 648هـ/1250م) على أيدي المماليك الذين أدركوا خطره عليهم وسوء فهمه للسياسة وإدارة الدولة؛ سرعان ما "اتفق أهل الدولة على إقامة شجرة الدر (أرملة السلطان أيوب المتوفاة 655هـ/1257م).. في مملكة مصر"؛ حسبما يفيدنا به القاضي المؤرخ تقي الدين المقريزي (ت 845هـ/1441م) في ‘المواعظ والاعتبار‘.
ومن لحظة ارتقاء "عصمة الدين شجرة الدر" إلى سدّة العرش بدأت بالفعل دولة سلاطين المماليك (648-923هـ/1250-1519م)؛ طبقا لرأي المقريزي الذي يقول في تاريخه ‘السلوك‘: "وهذه المرأة -شجرة الدر- هي أول من ملك مصر من ملوك الترك المماليك"!!يمدنا المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- بملامح هذا النظام التربوي والعسكري الصارم الذي كان يخضع له المماليك في قلعة الجبل بالقاهرة؛ فيقول: "كانت للمماليك بهذه الطِّباق (= الثُّكنات) عادات جميلة، أوّلها أنه إذا قدم بالمملوك تاجره عرضه على السّلطان ونزله في طبقات جنسه، وسلَّمه لطواشيّ (= خادم/مشرف) برسْم (= بغرض) الكتابة، فأوّل ما يبدأ به تعليمه ما يحتاج إليه من القرآن الكريم، وكانت كلّ طائفة (= مجموعة عرقية) لها فقيه يحضُر إليها كلّ يوم ويأخذ في تعليمها كتاب الله تعالى ومعرفة الخط والتمرّن بآداب الشريعة، ومُلازمة الصلوات والأذكار".
ثم يضيف المقريزي: "وكان الرسم (= العادة) إذ ذاك ألا تجلب التجارُ إلا المماليكَ الصغار، فإذا شبَّ الواحد من المماليك علَّمه الفقيه شيئا من الفقه، وأقرأه فيه مقدّمة، فإذا صار إلى سنّ البلوغ أخذ في تعليمه أنواع الحرب مِن رمي السهام ولعب الرمح ونحو ذلك، فيتسلم كلَّ طائفة معلمٌ حتى يبلغ [الفتى المملوكُ] الغايةَ في معرفة ما يحتاج إليه".
ويشيد المقريزي بهذه الطريقة التي اتُّبعت بصرامة شديدة طوال العصر المملوكي الأول في دولة المماليك البحرية (648-782هـ/1250-1380م)، إذ جمعت بين الآداب الشرعية والفنون الأدبية والعلوم العسكرية والتربية الأخلاقية؛ فيقول: "فلا يبلغ [الفتى المملوكُ] هذه الرتبة إلا وقد تهذبت أخلاقه وكثرت آدابه، وامتزج تعظيم الإسلامِ وأهلِه بقلبه، واشتدّ ساعده في رماية النُّشاب (= السهام)، وحسُن لعبه بالرمح، ومَرِن على ركوب الخيل. ومنهم من يصيرُ في رتبة فقيه عارف، أو أديب شاعر، أو حاسب ماهر"!!
ثم يحدثنا المقريزي عن الرقابة الصارمة على أدق تفاصيل حياة هؤلاء الفتيان المماليك، والتي يعهد بها إلى ثلاثة أشخاص مسؤولين جميعا عن كل فتى؛ فيقول: "ولهم أزِمّة (= إدارات) من الخُدّام وأكابر يفحصون عن حال الواحد منهم الفحص الشافي، ويؤاخذونه أشدّ المؤاخذة ويناقشونه على حركاته وسكناته، فإن عثر أحد من مؤدّبيه -الذي يعلّمه القرآن أو الطواشيّ الذي هو مُسلَّم إليه أو رأس النَّوْبَة (= قائد المماليك) الذي هو حاكم عليه- على أنه اقترف ذنبا أو أخلّ برسم، أو ترك أدبا من آداب الدين أو الدنيا، قابله على ذلك بعقوبة مؤلمة شديدة بقدر جرمه"!
وقد لاحظ المقريزي -ببصيرة ثاقبة- أثر تلك التربية الشاملة والصارمة في تكوين سلاطين المماليك وتعاظم قوة دولتهم سياسيا وعسكريا؛ فسجل ذلك -في ‘المواعظ والاعتبار‘- قائلا: "فلذلك كانوا سادةً يُدبِّرون الممالك، وقادةً يجاهدون في سبيل الله، وأهلَ سياسةِ يبالغون في إظهار الجميل، ويردعون من جارَ أو تعدّى"
وقد تجلت آثار هذه التربية المكينة على المماليك -وخاصة في عهد دولة "المماليك البحرية"- في معاركهم العسكرية المتوالية، وعلى رأسها معركة غزّة سنة 642هـ/1244م التي تمكن فيها السلطان الصالح أيوب من طرد الصليبيين وأعوانهم من بعض أمراء الأيوبيين بالشام، واسترد بيت المقدس للمرة الثانية بعد جده السلطان صلاح الدين (ت 589هـ/1193م)، وذلك بعد تسليمها طوعا سنة 626هـ/1229م من السلطان الكامل الأيوبي (ت 635هـ/1237م)، بل والوقوف بصلابة في وجه الحملة الصليبية السابعة (647-648هـ/1249-1250م) على دمياط والمنصورة بمصر. وإذا كان المماليكُ هم الذين كسبوا رهان الحروب الصليبية وأنهوا أحلام الصليبيين في العودة إلى المشرق بعد هزيمة حملتهم بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع (ت 669هـ/1270م) وأسره ومقتل نصف جيشه، وأيضا هم الذين استردوا آخر معاقلهم في عكّا على يد الأشرف خليل بن قلاوون (ت 693هـ/1292م) سنة 690هـ/1291م؛ فهم أيضًا الذين سحقوا -قبل ذلك وبعده- المغولَ في معارك استمرت نصف قرن بدأت بعين جالوت في فلسطين سنة 658هـ/1260م، وانتهت بمعركة شَقْحَب جنوب دمشق سنة 702هـ/1302م.
ويُدرِك مؤرخو العصر المملوكي هذه الحقيقة التي نراها جلية في مؤلفاتهم، حين ربطوا بين اكتساب المماليك شرعيتهم السياسية وانتصاراتهم على الصليبيين؛ ولذلك يقول المقريزي -في ‘السلوك‘- عن دورهم في معركة المنصورة ونتائجها السياسية الحاسمة في شرعيتهم.
يقول المقريزي: "وكادت الكَسْرة أن تكون [على المسلمين]؛ فإن الملك ريدافرنس (= ملك فرنسا) وصل بنفسه إلى باب قصر السلطان [الصالح أيوب بالمنصورة] إلا أن الله تدارك بلُطفه وأخرج إلى الفرنجِ (= الصليبيين) الطائفةَ التركيةَ التي تُعرف بالبحرية والجَمَدَارية، وفيهم ركن الدين بِيبَرس البُنْدُقْدَاري (ت 676هـ/1277م) الذي تَسَلْطَنَ بعد هذه الأيام".
وعن إسهامهم العظيم والحصري في صد مد التتار يقول الإمام المؤرخ بدر الدين العيني في ‘عِقد الجُمان‘: "لما استولتِ التتار على البلاد الشامية وضايقوا الممالك الإسلامية، ولم يبقَ من يدفعهم عن العباد والبلاد إلا عسكر الديار المصرية؛ اتفقَ السُّلطان الملك المظفر قُطُز (ت 658هـ/1260م) مع الأمراء والأكابر على تجهيز العساكر، وصمموا على لقاء العدو المخذول.. وخرجوا من القاهرة بأعظم أبهة"، فكان النصر العظيم حليفهم
ظرًا لما تلقّاه المماليك -وهم في طور الشباب- من تنشئة دينية صارمة نظريا وعمليا، عزّزوها سياسيا سنة 659هـ/1261م بـإحياء منصب الخلافة العباسية -وإنْ على نحو شكلي- التي جعلوا عاصمتها القاهرة بعد سقوط بغداد 656هـ/1258م، وبرصيدهم الجهادي العظيم كما رأينا؛ فقد حرص المماليك -استكمالا لترسيخ الأبعاد الدينية لنظام حكمهم في أعين الشعب- على تقريب العلماء والزهّاد والقضاة واستشارتهم وتعظيم جنابهم، احتراما لمكانتهم أو مهابة لعواقب تأثيرهم الشعبي. فقد روى مثلا السيوطي (ت 911هـ/1505م) -في ‘حُسن المحاضرة‘- أن السلطان الظاهر بيبرس (ت 676هـ/1277م) كان مُنقمِعًا تحت كلمة الإمام عز الدين بن عبد السلام (ت 661هـ/1259م) "حتى إنه قال لما مات الشيخ: ما استقر مُلكي إلا الآن"!!
ويروي الإمام ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) -في ‘إنباء الغُمر بأبناء العُمر‘- أن السلطان الظاهر بَرْقُوق (ت 801هـ/1398م) حين أنشأ مسجده الجامع، وقرر فيه شيوخًا يتولون التدريس "استقر [الشيخ] علاء الدين السيرامي (الحنفي ت 790هـ/1388م) مُدرسَ الحنفية بها وشيخَ الصوفية بها، وبالغ السُّلطان في تعظيمه حتى فرش سجّادته بيده"!
ونظرًا للمكانة العظيمة التي حازها العلماء وما تولوه -في الدولة المملوكية- من الوظائف الدينية كالقضاء والتدريس والفتيا والإمامة والخطابة والوعظ، والوظائف الديوانية مثل الإشراف على الأوقاف وتولي قضاء الجيش وديوان المال والوزارة وجهاز الحِسبة؛ كان علماء الشرع من الفقهاء والصوفية على رأس المشاركين في حملات المماليك العسكرية أيضًا.
والمواقف الدالة على ذلك أكثر من أن تُحصى؛ منها مثلا مشاركتهم في مقاتلة التتار وطرد الصليبيين من المدن الشامية، ففي رجب من عام 666هـ/1267م "جهّز السلطان [الظاهر بيبرس] عسكرًا إلى الشقيف (تقع جنوبي لبنان اليوم وكان يحتلها الصليبيون)، ثم سار إليها بنفسه.. وقدم الفقهاء للجهاد "؛ وفقا للمقريزي في تاريخه ‘السلوك‘
وإذا كانت العلاقة بين السلطان والفقيه في عصر المماليك ظلت -في غالب الأحيان- تدور على قاعدة تكريم العلماء وتعظيم مكانتهم؛ فإن هذه القاعدة وجدت في الواقع العملي المتعلق بمؤسسات الدولة والمجتمع ما يرسخها، ويمنحها حواضن مؤسسية تكفل لها الاستمرارية في أدائها وعطائها، وتضمن للعلماء الاستقلالية في رسالتهم العلمية والمجتمعية.

ومن هنا حرص هؤلاء المماليك على عمارة المنشآت الدينية والتعليمية وحبس الأوقاف السخية، لتزداد قوة ورسوخا عما كانت عليه في العصر الأيوبي؛ وهو أمر تنوعت دوافعه وأهدافه بين الرغبة في خدمة الشرع نشرا لعلومه ورعاية لطلبتها وعلمائها، ابتغاءً للأجر الأخروي أو طلبا للتقرب من الرعية وكسب ولائها، وفي الحالتين فإن الحياة العلمية هي المستفيدة والظافرة.
ولذا لم يكن من المستغرب أن يصف القاضي المؤرخ ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) -في تاريخه- أوقاف المماليك في مصر بأنها "الأوقاف التي جاوزت حُدود النهاية في هذا المصر لكثرة عوالمه"، وبأنها لكثرتها "أصبحت خافية الشُّهرة مجهولة الأعيان"!!
وقد تنوعت منشآت هذه الأوقاف ما بين المساجد والمدارس والمستشفيات والمكتبات والأسبلة والخانات والفنادق وغيرها، ويلاحظ أحيانا أن المماليك هم الذين كانوا يبادرون في إنشاء الأوقاف وافتتاح المساجد والجوامع رغم اعتراض بعض الفقهاء وقُضاة القضاة، ومن ذلك قصة إعادة افتتاح الجامع الأزهر في عصر السلطان بيبرس سنة 665هـ/1267م، بعد مئة عام من إغلاقه بأمر السلطان صلاح الدين الأيوبي.
وكانت الأوقاف على هذه المؤسسات -من الأراضي الزراعية الخصبة وغيرها- تُدرّ ملايين الدنانير الذهبية كل عام، فتصرف على الصيانة والتعمير ومرتبات العلماء وطلبة العلم وأبناء السبيل. وقد نقل الإمام المقريزي -في ‘الخطط والآثار‘- أنه لكثرة هذه الأوقاف صارت تُشرف عليها ثلاث إدارات مستقلة تدار برقابة القضاء، وكانت إحدى هذه الإدارات تُعرف بـ"ديوان الأحباس".

وتدل المعطيات التاريخية المتوفرة عن هذه المدارس على تنوعها المذهبي، وأن دعم المماليك المالي والمدرسي للمذاهب الفقهية لم يكن مرتبطا بانتمائهم إلى مذهب معين، فما من مذهب إلا وأنشؤوا له مدارس ورصدوا أوقافا وأحيانا تكون المدرسة مشتركة بين مذهبين أو أكثر، وإن ظلت كثير منها مخصصة للمذهبين الشافعي والحنفي لظروف خاصة بكل منهما.
فلم يكن إذن من المستغرب حينها أن نجد عدة علماء عظماء في عصر واحد وربما في قُطر واحد من أقطار الدولة المملوكية. وهكذا نلاقي في الشام أئمة مثل: والنووي (ت 676هـ/1277م) وقاضي القضاة ابن الزَّمْلَكاني (ت 727هـ/1327م) وشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م)، وعَلَم الدين البِرْزالي (ت 739هـ/1338م) وجمال الدين المِزِّي (ت 742هـ/1341م)، والذهبي (ت 748هـ/1347م) وابن القيم (ت 751هـ/1350م) وابن كثير (ت 774هـ/1372م)، والسُّبكي الأب (ت 754هـ/1353م) والسُّبكي الابن (ت 771هـ/1359م).
كما نجد نظراء لهم في مصر مثل الأئمة: العز بن عبد السلام وتقي الدين بن دقيق العيد (ت 702هـ/1302م) وقاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة (ت 733هـ/1333م) وشيخ الإسلام سراج الدين البُلْقَيْني (ت 803هـ/1400م) والحافظ ابن حجر العسقلاني. وقِسْ على ذلك أمثالهم في حواضر الحجاز واليمن الداخلة ضمن الدولة المملوكية.
ولئن كانت رعاية المماليك للحياة العلمية والدينية في دولتهم (علماءَ وعلوماً ومؤسساتٍ خادمةً لكليهما) عظيمة في مستواها ومحتواها؛ فإنه يبقى من الأمور اللافتة أن هذه العناية سرعان ما نشأت في كنفها فئة واسعة من أمراء المماليك أنفسهم وأبنائهم، مما يوحي بأن الأمر كان وعياً عاما بين أوساط المماليك وليس لدى سلاطينهم فقط؛ فدخلت هذه الفئة التاريخ من باب العلم تحصيلا وتوصيلا وليس من بوابة السياسة والعسكر، وكانت -بوجه ما- هي المكافئ الذكوري لـظاهرة الجواري المثقفات والعالمات.
ولا ريب أن هذه الفئة -التي يمكن تسميتها بـ"المماليك العلماء"- تنفي الصورة النمطية المتداولة اليوم عن المماليك، باعتبارهم كانوا فقط رجال حرب وكرّ وفرّ أو رجالات دولة يتصارعون -بلا رحمة- على سدة الحكم؛ والحال أن المنتمين منهم إلى فئة العلماء أسهموا إسهامات عظيمة ومؤثرة في مسيرة العلوم الشرعية والأدبية تعليمًا وتأليفًا وهم لا يزالون في ملابس الجندية وعُدّة القتال، ناهيك عن تبديدها لصحة الفكرة الشائعة عن عصر المماليك باعتباره أشد عصر انحطاط علمي وفكري وأدبي.

وإذا دققنا النظر في نشأة فئة الأمراء العلماء هذه -في شقها المتعلق بالعصر المملوكي- فسنجد أنها تعود إلى بدايات تأسيس الدولة المملوكية، وربما ترجع أوائل نماذجها إلى العصر الأيوبي ثم زاد بروزها في زمن السلطان الصالح نجم الدين أيوب (ت 647هـ/1249م)، الذي نجد أحد أبرز مماليكه وأعظم سلاطينهم وهو الظاهر بيبرس يلقب بـ"العالِم المجاهد"؛ فقد أورد المؤرخ النويري (ت 733هـ/1333م) -في ‘نهاية الأرب‘- نصَّ يمين سلطانية وُصف فيها بأنه "السلطان الكبير، العالِم المجاهد.. الملك الظاهر.. بيبرس"!!
ونحن نفهم من التفاصيل التي أوردناها سابقا عن المقريزي بشأن أساليب تربية المماليك -بدءا من لحظة الجلْب صغارًا من بلدانهم المختلفة وإدخالهم في ثكنات التكوين بالقلعة- أنهم خضعوا لعملية مكثفة لتعلُّم العلوم الشرعية والعسكرية على السواء، وأن مستوى المتخرجين المماليك كان عاليًا، حتى إنه يكون "منهم مَنْ يصيرُ في رتبة فقيه عارف، أو أديب شاعر، أو حاسب ماهر"؛ وفق تعبيره.
ولدينا أيضا واحد من أهم مماليك السلطان الناصر محمد بن قلاوون (ت 741هـ/1340م) وهو الأمير أرغون شاه الناصري (ت 750هـ/1349م)، الذي ترقى في المناصب العسكرية والسياسية حتى صار نائب حلب بل نائب سلطان المماليك قاطبة لمدة أحد عشر عاما، أي أنه كان الرجل الثاني في أعظم دول العصر آنذاك.
قال عنه المؤرخ والأديب صلاح الدين الصَّفَدي (ت 764هـ/1363م) في ‘الوافي بالوفيات‘: "كان تُركياً فصيحًا.. أنبل [المماليك] الناصرية (= نسبة للناصر ابن قلاوون)، تفقّه لأبي حنيفة [حتى] أذنوا له بالإفتاء..، وسمِع [صحيح] البخاري، وكَتبه بخطّه في مجلدة واحدة في الليل على ضوء القنديل".
وفوق ذلك فإن الأمير أرغون شاه كان شغوفًا بجمع الكتب وإنشاء المكتبات وينفق فيها المبالغ الباهظة، حتى "اقتنى الكتب الكثيرة وغوى (= شُغِفَ) بها وحصّل منها جُملة كبيرة إلى الغاية"؛ فقد حدث مرة أن أحد مشاهير أمراء المماليك توفي بالقاهرة وكان يمتلك مكتبة فخمة فعرضها ورثته للبيع، وكان أرغون شاه حينها نائبا لأمير حلب فـ"جّهّز إلى مصر في البريد مبلغ ألفيْ دينار (= اليوم 350 ألف دولار أميركي تقريبا) لمشتري كُتب من تركته"؛ طبقا للصفدي.

ومثل أرغون في نهمه العلمي؛ بدر الدين الحسن بنُ خاص بَكْ (ت 813هـ/1410م) الذي وصفه جُلُّ مؤرخي العصر المملوكي بالإمام في الفقه والتدريس والإفتاء، وكان في الوقت ذاته من قوات الحرس السلطاني الخاص المسمى "المماليك السلطانية"، وهم أعلى وأرقى الفئات العسكرية في سلك الجيش المملوكي.
ويذكر المؤرخ ابن تَغْري بَرْدي (ت 874هـ/1469م) -في ‘المنهل الصافي‘- أن ابن خاص بَكْ هذا كان "أحد أعيان فقهاء السادة الحنفية، وأحد مُقدّمي المماليك السلطانية، كان جنديا بارعًا، عالما مفنّنا في الفقه والعربية والأصول، وله مشاركة في عدة علوم، وتصدّر للإفتاء والتدريس عدة سنين، وانتفعت به الطلبة"!
لم يكن من المستغرب إذن أن تجد أميرًا مملوكيا يجمع بكفاءة بين الوظيفة العسكرية وعلوّ الكعب في طلب العلوم الشرعية في ذلك العصر؛ فهذا الأمير تَغْري بَرْمِشْ المؤيَّدي (ت 852هـ/1448م) "نائب القلعة" بالقاهرة -أي المسئول العسكري الأول عن أمن عاصمة المماليك وقلعتهم الحصينة- يترجم له ابن تَغْري بَرْدي قائلا إنه "الفقيه الحنفي المحدِّث، الأمير سيف الدين أبو محمد، نائب القلعة بالديار المصرية".
بل إن ابن تَغْري بَرْدي يزيد على هذا فيذكر أن الأمير تغري برمش برع في علم الحديث الذي أخذه عن كبار علماء عصره، وعلى رأسهم الإمام ابن حجر العسقلاني؛ فيقول إنه "كان أحسن علومه الحديث، وفيه كان غاية اجتهاده، وسمع الكثير. ذكر لي أنه قرأ ‘صحيح البخاري‘ على.. مُحِبّ الدين أحمد بن نصر الله الحنبلي البغدادي (ت 844هـ/1440م) قاضي قضاة الديار المصرية..، وقرأ على قاضي القضاة.. أحمد بن علي بن حجر ‘السُّننَ‘ لأبي داود السجستاني (ت 275هـ/888م)".
أما الأمير الكبير علم الدين سَنْجَر التركي الصالحي (ت 699هـ/1300م)؛ فيصفه الإمام الذهبي -في "تاريخ الإسلام"- بأنه "الأمير الكبير العالِم المحدِّث..، حصل له عناية بالحديث.. فسمع الكثير وحصّل الأصول". ويضيف الذهبي أن أكبر عالِميْن في الحديث النبوي بالشام آنذاك -وهما المِـزِّي والبِرْزالي- كتبا عن الأمير المحدِّث سنجر الصالحي أجزاء مفردة في الحديث؛ فيقول: "خرّج له المِزّيُّ جُزأيْن عوالي، وخرّج له البِرْزالي مُعجمًا في أربعة عشر جزءًا"!

الحق أن المقام يضيق عن ذكر عشرات وربما مئات الأمراء المماليك الذين دأبوا على تعلم العلوم الشرعية تعلما تخصصيًا، رأينا بعضهم اجتاز هذه التخصصية حتى صار إمامًا يقصده كبار علماء وحُفّاظ الحديث في عصره للسماع عليه، وطلب الإجازة منه، والبقية جمعوا بين العلوم العسكرية والدينية مثل الأمير علم الدين ألْطُقْصُبَا التركي (ت 697هـ/1298م) الذي "كان من قدماء أمراء دمشق وروى [الحديث النبوي] عن سبط السِّلَفي (ت 651هـ/1253م)"؛ حسب ابن تَغْري بَرْدي. أما الأمير الكبير سيف الدين تَنْكُزْ بن عبد الله الحسامي (ت 741هـ/1340م) فقد كان نائب دمشق لعدة عقود، والرجل الثاني في دولة الناصر محمد بن قلاوون، وأحد القلائل ممن أُطلق عليهم "ملك الأمراء". ومع ذلك فإنه كان شغوفا بطلب الحديث النبوي حتى صار شيخا فيه لبعض علمائه، وقد "سمع ‘صحيح البخاري‘ غير مرة من [الإمام] ابن الشِّحنة (ت 730هـ/1330م)، وسمع كتاب ‘الآثار‘ للطحاوي، وقرأ عليه [عالمَ الحديث محيي الدين] المقريزيُّ (الحنبلي ت 733هـ/1333م) ‘ثلاثيات البخاري‘ بالمدينة النبوية"

ومن هؤلاء المماليك وأبنائهم مَنْ تمكّن مِنْ ناصية العلوم الشرعية والعسكرية معاً، فجمع بذلك بين التدريس والفروسية؛ مثل ناصر الدين محمد بن مهنّا بن طُرُنْطاي (ت 833هـ/1430م) الذي "اشتغل في الفقه على غير واحد، وأخذ العلوم العقلية عن العز بن جماعة (ت 819هـ/1416م)..، وكان فاضلا خِيّارًا، درّس بالأزهر وغيره وانتفع به الفضلاء، كل ذلك مع براعته في رمي النُّشّاب (= السهام) والبُندق (= سلاح يشبه البندقية القديمة) والرمح والدبوس، وغيرها من أنواع الفروسية ونحوها"؛ وفقا للسخاوي.
ومن الملاحظ في التراجم أن المماليك لم يقتصروا في أخذهم العلوم على العلماء الرجال فقط، بل تتلمذ كثير منهم للنساء العالمات في مختلف الفنون؛ ومن هنا تردد اسم خليل بن طُرُنْطاي العادلي (ت بعد 770هـ/1368م) في مصنفات طبقات المحدثين في عصر المماليك، بعد أن أخذ الحديثَ عن كبار علماء عصره وصار أحد كبار رواة ‘صحيح البخاري‘؛ فيقول ابن حجر -في ‘الدرر الكامنة‘- إنه "سمع صحيح البخاري من ابن الشِّحنة ومن ستّ الوزراء (وزيرة بنت عمر التنوخية ت 716هـ/1316م) وحدَّث به بمصر مرارًا"!!
وهذا المسئول العسكري الأول عن أمن القاهرة الأمير تَغْري بَرْمِشْ المؤيَّدي -المذكور سابقا- قرأ على "الشيخة الأصيلة أم الفضل عائشة بنت القاضي علاء الدين علي الكناني العسقلاني (ت 840هـ/1436م) ‘الفوائد‘ لأبي بكر الشافعي (البزّاز ت 354هـ/965م) المعروفة بـ‘الغَيْلانيات‘"؛ حسب ابن تَغْري بَرْدي في ‘المنهل الصافي‘.
كما وجدنا بعض الشيخات اللاواتي أسمعْن الحديث النبوي في مجالس السلطان المملوكي داخل "قلعة الجبل" بالقاهرة، مثل "المُسنِدة المُعمَّرة ست الوزراء أم محمد وزيرة بنت عمر التنوخية.. حدّثت بـ‘صحيح البخاري‘ في القاهرة ومصر وقلعة الجبل سنة خمس وسبعمئة (705هـ/1305م)"؛ طبقا للمقريزي في ‘السلوك‘

كثيرا ما نُطالع في مصنفات التاريخ والتراث المملوكي وصفا لفقيه ما بأنه كان يتزيّا "بزي الأجناد"، حتى إنك لترى "الجندي الفقيه" ظاهرة لافتة للعِيان والأذهان في ذلك العصر الحافل بالموسوعات والعلوم والحروب ومظاهر القوة في العالم الإسلامي.
يأتي على رأس هؤلاء الإمام المحدّث الفقيه النحوي صلاح الدين خليل بن كَيْكَلْدي العلائي الشافعي (ت 761هـ/1360م)، الذي ترجم له معاصره الصفدي -في ‘أعيان العصر‘- فقال إنه "الشيخ الإمام الفريد، جامع شتات الفضائل، المفسّر المحدّث الفقيه النحوي الأديب الإخباري..، كان أعجوبة في علومه الجمّة..، كان أولا بزي الأجناد ثم ترك ذلك"!! وقد أحصى المؤرخون للحافظ العلائي هذا أكثر من خمسين مصنفا في علوم الحديث والفقه والتفسير والنحو وغيرها، بعضها في عشرات المجلدات. وبخلاف الإمام العلائي الذي ترك زيّ الجندية وانكبّ على العلم تعليما وتصنيفا؛ نجد أن الأمير علاء الدين علي بن بَلَبَان المصري (ت 739هـ/1338م) ظلَّ مؤمنا بالجندية المملوكية، وفي الآن نفسه كان مولعًا بالعلوم والمعارف، ملازما لكبار علماء عصره في المنطق والأصول النحو والحديث وغيرها، حتى صار من ألقابه "الأمير المفتي المحدِّث" و"الجندي الحنفي"؛ طبقا للصفدي.
وبلغ ابن بَلَبَان هذا مرتبة عسكرية متقدمة صارَ بها مِن جُملة الأمراء الكبار في دولة السُّلطانيْن المظفر بيبرس الجاشنكير (ت 710هـ/1310م) والناصر محمـد بن قلاوون، ومع ذلك يذكر الصفدي أنه تركَ مصنفات عديدة منها: "‘شرح كتاب الجامع‘ تصنيف صدر الدين الخِلَاطي (ت 652هـ/1254م)، ورتَّبَ ‘صحيح ابن حبان‘ على أبواب الفقه، وكذلك ‘معجم الطبراني الكبير‘ بإعانة الشيخ قطب الدين عبد الكريم (الحلبي ت 735هـ/1334م)".
وبهذه المنزلة العلمية الرفيعة التي نالها ابن بَلَبَان؛ شهد له الصفدي بأنه كان "يصلُحُ للقضاء لسكونه وعِلمه وتصوّنه"!! وذلك من أعجب ما شهدته الحضارة الإسلامية في عصرها المملوكي؛ إذ يأتي جندي لا يفقه إلا التركية أو المغولية ثم يصير رأسًا في العلوم العسكرية والمراتب السياسية وإماما في العلوم الشرعية على السواء!
وكذلك يذكر السخاوي (ت 902هـ/1507م) -في ‘الضوء اللامع لأهل القرن التاسع‘- أن الأمير أحمد بن كُنْدُغْدي التركي القاهري (ت 807هـ/1404م) "كان عالمًا فقيهًا دينًا بِزي الأجناد"، وقد أهّلتْه مكانته العلمية ورتبته السياسية لأن يُبتعث سفيرا إلى السلاطين العظام، فقد "توجّه عن الناصر فرَج (بن برقوق ت 815هـ/1412م) رسولا إلى تَمُرْلَنْكْ"، أي تيمورلنك الإمبراطور الأوزبكي (ت 807هـ/1404م).

ويحدّثنا ابنُ تَغْري بَرْدي -في ‘النجوم الزاهرة‘- عن أحد المماليك كان مجاورا بمكة المكرمة اسمه زين الدين عمر ابن الأمير سيف الدين قديد القَلْمَطاوى (ت 856هـ/1452م)؛ فوصفه بأنه "الإمام العالم العلّامة..، وكان إمامَ عصره في النحو والعربية والتصريف، وله مشاركة كبيرة في فنون كثيرة، وكان يتزيا بزى الأجناد، ويتقلَّل في ملبسه ولا يتعاظم في أحواله.. مع عراقته في الرياسة، وتبحره في العلوم حتى إنه مات ولم يخلف بعدَه مثلَه في علم العربية والتصريف"!!
ومن هذه الفئة أيضا الجندي والفقيه الحنفي ثم الشافعي: يوسف بن شاهين بن قُطْلوبُغا القاهري (ت 899هـ/1495م)؛ فقد ربّاه جدّه لأمه الإمام ابن حجر العسقلاني على حب العلوم الدينية والشرعية، ولكنه من ناحية أبيه وأجداده المماليك كان يعشق الفنون العسكرية "وكان متزيِّيًا بزِيّ الأجناد، متمذْهبًا لأبي حنيفة، و[تعلَّم] رمْيَ النُّشّاب فأجاد.. ففُتح عليه وبَرَع في مُدّة يسيرة، مع الاشتغال بغير ذلك من العلم وصيانة النفس واستئْلاف الطلبة، ثم استأذن السلطان في التزيي بزي الفقهاء فأذن له"؛ حسب السخاوي.
وكان علي بن عمر بن سليمان الخُوارِزْمي (ت 806هـ/1403م) من أسرة لها باعٌ في الجندية المملوكية إذ "كان أبوه من الأجناد"؛ وفقا للسخاوي. وكان لابنه عليّ هذا إقطاع في "ديوان الجيش" لا يُعطى إلا للمماليك وأبنائهم يرتزقون منه، ولذا "نشأ على أكمل طريقة وأحسن سيرة، وأكبَّ على الاشتغال بالعلم، وطالع في كُتب ابن حزم (الظاهري الأندلسي ت 456هـ/1065م) فهوى كلامه، واشتُهر بمحبته والقول بمقالته، وتظاهر بالظاهر (= المذهب الظاهري)"!!
ولشدة اشتغال هذا الفقيه الجندي بالعلم وحبّه له فإنه "نزل عن إقطاعه في سنة بضع وثمانين [وسبعمئة هجرية] وأقام بالشام مدة". وفي آخر عمره جمع بين الاشتغال بالعلم ومباشرة الوظائف المملوكية، حيث "باشَرَ شَدَّ (= الرقابة الإدارية والمالية) الأقصر لبعض الأمراء".
أما أحمد الجزري الجندي المملوكي (ت 727هـ/1327م) فإن ابن حجر -في "الدرر الكامنة‘- يخبرنا أنه "كان لا يعرف اسم أبيه ولا نسبه"، لكنه كان "من أجناد الحلقة" الذين هم العمود الفقري والأكثرية في الجيش المملوكي. ورغم ذلك كان مغرمًا بتعلم الحديث النبوي الشريف حتى "أخذ عنه [من أصبحوا أئمة عصرهم في العلم مثل] الذهبي والبِرْزَالي وابن رافع (السَّلَامي ت 774هـ/1372م)"

وقد التقى المؤرخ صلاح الدين الصفدي بكثير من نماذج المماليك العلماء، وترجم لبعضهم في موسوعتيْه ‘أعيان العصر وأعوان النصر‘ و‘الوافي بالوفيات‘. منهم شيخه المحدِّث الجندي شهاب الدين أحمد بن عبد الله الحسامي (ت 749هـ/1348م)، الذي كان بجوار انخراطه في سلك الجندية المملوكية عاكفًا على تعلم الحديث النبوي الشريف فـ"حدَّثَ وهو شاب، وكتب بخطّه، وقرأ بنفسه، وحصّل الأصول والفروع، وانتقى على الشيوخ، وجمع مجاميع، وأرّخ الوفيات، وقرأ الفقه، وحفظ ألفية ابن مالك". ويضيف الصَّفَدي مسجلا تلْمذته لهذا "المحدِّث الجندي"؛ فيقول إنه "جمعَ مشيخة للقاضي ضياء الدين بن الخطيب (المحتسِب المحدّث ت 761هـ/1360م) فيها أربعون حديثًا، وتكلم على كل حديث وما يتعلّق به، وقرأها عليه، وسمعناها منه في سنة خمس وأربعين (وسبعمئة = 745هـ/1344م)"؛ كما في ‘أعيان العصر‘.
ولدينا أيضا في هذا العصر المملوكي "الشيخُ الـمُسنِدُ" علاء الدين علي بن إسحق (ت 731هـ/1331م) حفيد سلطان الموصل بدر الدين لؤلؤ الأتابكي (ت 657هـ/1259م)؛ فقد كان سليلَ آخر أمراء الموصل التابعين للدولة الزنكية، ونزح والده -فيما يبدو- بعائلته بعد الغزو المغولي للعراق واستقر بهم المقام بمصر، فكان علاء الدين هذا "من أعيان الجُند بالقاهرة"؛ طبقا للصفدي الذي يفيدنا بأنه سمع من كبار محدّثي عصره فصار "الشيخ المسند" في عصره ومصره.
وغير بعيد عن المشهد الفقهي؛ كانت الحركة الصوفية -التي بدأت التبلور منذ القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي مركِّزًة على مبادئ الزُّهد والابتعاد عن زخارف الحياة الدنيا- قد بلغت مداها في عصر المماليك الذين اعتقدوا كثيرا في "كرامات المتصوفة"، وتقربوا إليهم وجعلوا لهم شيوخًا مرشدين منهم.
ولهذا السبب انتسب كثير من المماليك -بمختلف مراتبهم العسكرية ووظائفهم الإدارية- إلى طُرُق التصوف وزواياه، وافتخروا بهذا الانتساب؛ فهذا مثلا الأمير عز الدين طُقْطَايْ الدَّوَادَار (ت 760هـ/1359م) أحد مشاهير أمراء المماليك في بلاد الشام كان "لطيف النفس، ثقيل الرأس، سهل القياد، صوفي الاعتقاد، حسن الأخلاق"؛ طبقا للصفدي في ‘أعيان العصر
كان من أبرز مظاهر اهتمام سلاطين المماليك وأمرائهم بإشاعة العلوم الشرعية -وعلى رأسها علوم القرآن والحديث والفقه والأصول- أنهم حرصوا على إصدار مناشير دورية لإعلام الناس بعقد مجالس سماع الحديث النبوي في المدن والأمصار والمواسم المختلفة طوال العام، وعلى رأسها "قلعة الجبل" مقرّ السلطنة في القاهرة. ومن ذلك أن السلطان الأشرف شعبان بن حسن بن محمد بن قلاوون (ت 778هـ/1376م) أصدر قرارًا في أول رمضان من عام 774هـ/1372م "عنده بالقصر من قلعة الجبل بقراءة كتاب ‘صحيح البخاري‘ في كل يوم من أيام شهر رمضان، بحضرة جماعة من القضاة ومشايخ العلم تبرُّكاً بقراءته"؛ حسب المقريزي في ‘السلوك‘.
وقد استمرت هذه العادة بعد ذلك في الدولة المملوكية عقودا عديدة؛ ففي عصر السلطان المؤيَّد شيْخ المحمودي (ت 824هـ/1421م) وفي 25 رمضان سنة 820هـ/1417م "خُتِمت قراءةُ ‘صحيح البخاري‘ بالقصر من قلعة الجبل، وحضر السُّلطان ختمه على العادة".
ويُعدّ السلطان المؤيد هذا أولَ من قرر أن تتواصل مجالس إسماع كتب السنة النبوية -وعلى رأسها ‘صحيح البخاري‘- في قصره بقلعة الجبل لمدة شهرين متتابعين، وكان ذلك في مجلس حافل يحضره كبار العلماء ورجال الدولة. يقول ابن تَغْري بَرْدي في ‘النجوم الزاهرة‘: "ولم يزل الأمر على هذا (= قراءة البخاري برمضان فقط) حتى تسلطَن المؤيد شيخ، فابتدأ بالقراءة من أول شعبان إلى سابع عشرين شهر رمضان".
ولا غرابة في صنيع السلطان المؤيَّد إذا استحضرنا ما قاله الحافظ ابن حجر -في ‘المجْمع المؤسِّس للمعجم المفهرِس‘- من أن هذا السلطان "حدَّث بـ‘صحيح البخاري‘ عن شيخ الإسلام سراج الدين البُلْقَيْني بإجازة معيَّنة (= خاصة به) أخرجها بخطه، وذكر أنها كانت معه في أسفاره لا يفارقها، وحضرنا عنده عدة مجالس" حديثية
وقد ساهم المماليك -وكذلك أبناؤهم من الجيل الثاني والثالث الذين عُرفوا في اصطلاح ذلك العصر بـ"أولاد الناس"- في مسيرة التأليف في العلوم الشرعية. ويأتي على رأس هؤلاء الإمام الحافظ علاء الدين مُغُلْطاي بن قِلِيج البَكْجَري (ت 762هـ/1361م)، الذي "كان يحفظ [كتاب] ‘الفصيح‘ لثعلب (الإمام اللغوي ت 291هـ/904م)، ومن تصانيفه ‘شرح صحيح البخاري‘.. و‘الزَّهر الباسم في السيرة النبوية‘.. وعدّة تصانيفه نحو المئة أو أزيد"؛ وفقا لابن حجر الذي يفيدنا -في ‘الدرر الكامنة‘- بأن مُغُلْطاي لم يكن مؤلِّفا جامعا فقط، وإنما كان عالما ناقدا لما يطالعه وفيما يضعه من التصانيف "وله مآخذ على أهل اللغة وعلى كثير من المحدِّثين"!!
ولدينا أيضًا من هذه الفئة المملوكية ذات التصانيف: الإمامُ قاسم بن قُطْلُوبُغا السُّودُوني (ت 879هـ/1474م) أحد أشهر علماء المذهب الحنفية وكبار أئمة الحديث في عصره؛ فقد ترجم له السخاوي وقال إنه "أقبلَ على الاشتغال فسمع تجويد القرآن.. وبعض التفسير..، وأخذ علومَ الحديثِ عن.. شيخنا [ابن حجر] والفقهَ". وترك ابنُ قُطْلوبُغا عدة مؤلفات طُبع بعضها اليوم مثل "تاج التراجم في طبقات الحنفية" و"غريب القرآن".
أما أحمد بن رجب بن طَيْبُغا المجدي (ت 850هـ/1446م) فكان جدّه طَيْبُغا المجدي قائدا كبيرا في الجيش المملوكي، وصار حفيده هذا "رأس الناس في أنواع الحساب والهندسة والهيئة (= علم الفلَك) والفرائض (= فقه المواريث) وعلم الوقت بلا منازع، واشتُهر بإقراء ‘الحاوي‘ [في فقه الشافعية]، وانتُدب للإقراء وانتفع به الفضلاء وأخذ عنه الأعيان من كل مذهب طبقة بعد أخرى"؛ حسب السخاوي الذي يورد قائمة طويلة من مؤلفات بن طَيْبُغا في علوم مختلفة.
ولم تكُن مجالس سلاطين المماليك تخلو من رجال العلوم والفنون التي ازدانت بهم وبمناقشاتهم الصالونات العلمية والثقافية في حواضر المماليك بمصر والشام، بل إننا نرى مشاركة لافتة لكثير من السلاطين في تلك المناقشات والمناظرات والمسائل الأدبية والعلمية، مثل السلطان حسام الدين لاجين (ت 698هـ/1299م) الذي "كان يحبّ مجالسة الفقهاء"؛ طبقا للمقريزي في ‘السلوك‘.
ومثله السلطان المؤيَّد شيخ المحمودي -السالف الذكْر- الذي يقول عنه ابن حجر -في ‘المجْمع المؤسِّس‘- إنه "كان يحب العلماء ويجالسهم ويكرمهم ويعظم الشرع وحملته". ويخبرنا ابن تَغْري بَرْدي -في ‘النجوم الزاهرة‘- أنه "كان يُشارك الفقهاء في أبحاثهم ويتصوّر أقوالهم ويطرحُ عليهم المسائل المشكلة"؛ وقد أورد أخبارا بشأن مناظرات عديدة وقعت في مجلس هذا السلطان.