الموساد أنقذ الأسد من محاولتي انقلاب

(تركي مصطفى)

عثرت مصادفة على فيلم "داماسكوس كوفور" الذي يصور العلاقات السورية – الإسرائيلية وحيثياتها في ثمانينات القرن العشرين، حيث احتدمت المفاوضات بين الطرفين، قبل أن تشهد تصدعات إثر احتجاز مخابرات الأسد لأحد عملاء جهاز الموساد الإسرائيليّ في العاصمة دمشق, في إطار الصراع بين أجهزة الأسد الأمنية التي كشف إحداها شبكة كاملة من العملاء الإسرائيليين ولم يتبق سوى أشدّ العملاء أهمية وسرّية, وهو “الملاك” البطل السرّي للمخرج الذي يحركه بطريقة درامية صادمة من خلال شخصيته كعميل إسرائيلي رقم واحد في دمشق.

 
المفاجأة الحقيقية التي مهّد لها المخرج لما يزيد عن ساعة ونصف، كانت في أنّ “الجنرال فؤاد”، الرجل العسكري الثاني بعد حافظ الأسد، هو الملاك نفسه الذي عمل الموساد على حمايته من أحد الجنرالات الآخذين بالاتّساع في مفاصل دولة الأسد الأمنية.
 
هذه المرّة “ملاك إسرائيل” الأغلى والذي يحميه الموساد هو الرجل الذي أذاق ملايين السوريين سوء العذاب عبر شبيحته وجلاوزة نظامه، واستقوى عليهم باستقدام قوى دولية وأخرى إقليمية لتثبيته على كرسي الحكم.
مقدمة
عندما تمكن الأسد الوريث في العام 2000م من السيطرة على أغلب المراكز السيادية السورية، بمؤازرة مجاميع إسناد عسكرية وحزبية طائفية الولاء والتبعية، شرع بانتهاج طرق أخرى، لفرض وجوده الأبدي على رأس السلطة في سورية، عبر شبكة أمنية منتشرة في أرجاء البلاد تحمي منظومة حكمه الفاسدة وتحارب الشعب السوري بلقمة عيشه، ولم تمنع هذه الاستراتيجية، كذلك، من اللجوء إلى خيار “العنف” الذي اتُّبع لإخضاع الأصوات المعارضة. تزامن ذلك مع انتشار الموساد الإسرائيلي بشكل علني في مفاصل النظام والدولة, بدءا من “التطبيع العلني الناعم” بين النظام وإسرائيل الذي جسدته مصافحة الأسد الشهيرة للرئيس الإسرائيلي “موشيه كتساف” في الفاتيكان خلال تشييع جنازة البابا يوحنا بولس الثاني, وكذلك استقباله في دمشق لرجل الموساد الإسرائيلي “ناثان جيكوبسون” وهذه كانت أحد أسباب حنق الشعب السوري على الأسد ومحاولات تطبيعه مع “إسرائيل”. حتى بات موضع سخرية السوريين وغضبهم, ليس لعلاقته مع إسرائيل فحسب, بل ولاستشراء الفساد في كل مكان, وكانت رؤوس الفاسدين هي التي تحيط به وعلى رأسهم رامي مخلوف صاحب الجملة الشهيرة: “لن يكون هناك استقرار في اسرائيل اذا لم يكن هناك استقرار في سوريا”, وأدت تصرفات الأسد إلى إثارة الفتنة الطائفية والقومية في سوريا, كاستدعاء الروح المذهبية بين البدو والدروز في السويداء, أو تغذية الصراع العربي – الكردي في الجزيرة السورية, ومن ثم تحويل الجيش إلى ميليشيا طائفية, وزاد من ذلك إدخال سورية في مناطق النفوذ الإيراني.
 
وعلى مدى أكثر من عشر سنوات من التوريث، لم يتمكن نظام الأسد من تحقيق أهدافه، فأجهزته الأمنية تحتجز المواطنين بدون أوامر ضبط أو أوامر قضائية وتعذبهم وتشدد الرقابة على المواقع الاجتماعية في شبكة الانترنت مثل “فيسبوك ويوتيوب والمدونات”. ومع دخوله العقد الثاني من حكمه ورغم كل أدوات الردع ووسائل القمع فالاحتجاجات الشعبية التي واجهته في معقله بدمشق، مارس/آذار 2011 قد مثّلت فرصة ثمينة، ليعلن الشعب السوري ثورته ضد النظام الذي واجهها بالقوة المفرطة, واهتز حكمه لدرجة السقوط وشكل شبكة أمنية أطلق عليها “خلية الأزمة” اغتيل جميع أعضائها في ظروف غامضة بتفجير مبنى مكتب الأمن القومي ليقضي الجميع على الفور, ما عدا العضو” محمد الشعار” الذي كان يشغل وزير داخلية النظام لغاية يوم أمس حيث أقاله الأسد. ومع تطورات الثورة وتضييق الخناق على النظام لجأ إلى استخدام الأسلحة الكيماوية في أغلب المناطق السورية الثائرة, وكان أشدها فظاعة وإيلاما ما قام به من قصف غوطة دمشق بــ”غاز السارين”.
ما يجب أن يشار إليه؛ لفهم ما دار, ويدور، اليوم، من إفلات الأسد من العقاب الدولي هو ما تبذله المجموعة الدولية المرتبطة بمصالح مع الأسد كالولايات المتحدة التي ترى أن استراتيجيتها تقوم على تغيير سياسة الأسد, وليس تغيير النظام الحاكم في سوريا لأنها تعتبر هذه الخطوة بمثابة مغامرة كبيرة لها في المنطقة, فيما كانت إسرائيل أكثر الدول اندفاعا لحمايته من السقوط باعتباره “ملاكها”.
توجيهات الموساد: اغتيال “خلية الأزمة”
كشفت الوقائع والأحداث التي شهدتها وتشهدها سوريا على مدى ثماني سنوات أن الأسد ليس وحده من يقف وراء كل هذا الصخب والأحداث والجرائم، وأنه ليس وحده ولا ممثله “الجعفري” ولا حتى الروس من يقف وراء تعطيل وظائف مجلس الأمن الدولي، بل هناك أيادٍ أخرى توجهه وتحميه لها ارتباطها الوثيق بكل ما يدور في سوريا، وإن كان الأسد، وحده، من يشغل واجهة الأحداث الكبيرة، فالواقع أثبت أن الأسد جزء من منظومة مافيا دولية، تحولت مع كل جريمة كبرى إلى منظفات لقذارته، حينما تتطرق إلى جرائم “التنظيمات الراديكالية”، وتتناسى جرائم الإبادة التي ارتكبها الأسد، وهي في ذلك تعكس بشكل عام توجه السياسة الدولية الداعم لإبقاء الأسد لاعبا رئيسيا في المشهد السوري، وحليفا غير معلن للمنظومة الدولية في مكافحة ما يسمى “الإرهاب”.
قبيل اغتيال “خلية الأزمة” بثلاثة أشهر, انتشرت وثيقة مسرّبة تكشف عن لقاء سرّي عقد بتاريخ 09/ 03/ 2012 في أحد الفنادق بضواحي العاصمة البريطانية لندن، بين مندوب لمخابرات بشار الأسد مع ممثل المخابرات الإسرائيلية “الموساد” يدعى “لويس”، حسبما ورد في محتوى التقرير.
اللقاء السرّي تحدّث فيه المندوب الإسرائيلي عن الأزمة السورية، وعبّر عن استعداد “الموساد” للتعاون مع مخابرات الأسد للخروج مما وصفها بالأزمة. وذهب مندوب المخابرات الإسرائيلية إلى وصف حكام السعودية وقطر بأن أنظمتهم “فاشية وتعادي السلام”، وذكر أيضاً جماعات وصفها بالإرهابية مثل “القاعدة” وحركة “حماس”.
كما أبدى المتحدث ذاته تخوّفه الكبير من سيطرة من سماهم بـ”المسلحين” على سوريا، الذي سيكون خطراً على أمن الجولان، على حدّ قوله، وذهب إلى أن قيادته في تل أبيب قلقة من تصاعد قوة المعارضة، التي وصفها بالجماعات الإرهابية، والتي ستهدّد أمن إسرائيل في حال تعاونها مع حركة حماس.
وأوضحت وثيقة المخابرات السورية المسرّبة أن مندوب “الموساد” كان حريصاً على توطيد العلاقة مع مخابرات الأسد، وتعهّد بتزويدهم بمعلومات وصفها بالخطيرة حول ما تخطّط له كل من تركيا والسعودية وقطر للإطاحة بالنظام السوري.
وكانت بداية التزويد بالمعلومات أن مندوب “الموساد” كشف عن مخطط لاغتيال بشار الأسد تحضر له السعودية بالتعاون مع جهات عربية، على حدّ زعمه.
من جديد نسلط الضوء على حادثة تفجير خلية الأزمة يوليو/ تموز عام 2012، والتي ضمت مسؤولين كبار في نظام بشار الأسد من بينهم زوج شقيقته آصف شوكت الذي لقي حتفه وثلاثة من كبار المسؤولين أيضاً.
فكان هذا التفجير نقطة تحول في الحرب السورية، فبدلاً من إسقاط الأسد، أسفر عن مرحلة جديدة أكثر فتكاً في تدمير سوريا، حيث سمحت للأسد بالتمسك أكثر بالسلطة، وذهبت بكل أصوات النظام التي كانت لا تزال تنادي باستيعاب المعارضة إلى الصمت. وفي غضون عام، استخدمت ميليشيات الأسد حتى الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين لسحق الثورة في مهدها, وباتت سوريا مرتعا للإيرانيين وللموساد الإسرائيلي.
وبعد مرور ست سنوات على حادثة التفجير تتكشف بعض تفاصيل المسؤول عنها, والذي أودى بحياة آصف شوكت, ففي ديسمبر/ تشرين الثاني 2011، قام شوكت بزيارة اثنين من قادة الأجهزة الأمنية في حمص، ثالث أكبر مدينة سورية، للاجتماع مع نشطاء المعارضة، ورجال الأعمال، والقيادات الدينية والمجتمعية.
وقال الناس الذين كانوا هناك إن “شوكت كان الأكثر اهتماماً بخطة وقف إطلاق النار التي قدمت حينها. ورغم أنه لم يتم التوصل إلى اتفاق، إلا أن شوكت قام بلفتات تصالحية، مثل السماح لسيارات الإسعاف بإجلاء جثث القتلى والجرحى، وهو ما تم حظره لاحقاً من قبل فريق الأسد المتعطش للدم”. وفي هذا الصدد قال الزعيم اللبناني الدرزي وليد جنبلاط: “في رأيي، هم من تخلصوا منه، لأنهم كانوا خائفين منه”، (في إشارة إلى نظام الأسد). وقال آخرون، بمن فيهم طلاس والناس الذين يعرفون أفراد من عائلة الأسد، إن “شوكت كان يعد تهديداً محتملاً للرئيس من قبل المحيطين بالنظام”. ولعلّ المصادر المقربة من اللواء “مناف طلاس” نقلت عنه بعض الحقيقة, حيث قال: “إن قوة شوكت تضاءلت بعد وقت قصير من عودته من حمص، وأنه عندما أصر على الاحتفاظ بمهامه وصلاحياته، بدأ الصدام الحقيقي”.
وأفادت شهادات وجهاء زاروا شوكت قبيل اغتياله, “أنه بات عاجزا عن الإفراج عن عسكري أو مدني متهم بمشاركته بالاحتجاجات ضد النظام، حيث اعتكف في مكتب منزوي في رئاسة الأركان العامة مجردا من كل شيء”.
لقد كانت ثمرة التعاون بين جهاز الموساد والأسد اغتيال “خلية الأزمة” وعلى رأسها شوكت الذي بات يشكل تهديدا حقيقيا لسلطة الأسد والإطاحة به.
إسرائيل وكيماوي الغوطة.. وإفلات الأسد من العقاب
مثّل منتصف شهر آب من عام 2013م بدايةً لمرحلة جديدة من عنف الأسد لإحكام قبضته على السلطة التي راحت تنهار، فكان اختياره للسلاح الكيماوي الطريقة الأسهل والأنجح في ردع الثورة والحد من انتشارها المتسارع، وفق إيديولوجية العنف المفرط في الصراع على السلطة، وبقدرة فائقة على التكيف السياسي وإزاحة العراقيل التي ستواجهه في حال قيامه باستخدام الأسلحة المحرمة دوليا.
حيث استيقظ سكان الغوطة الشرقية ومعضمية الشام بالغوطة الغربية يوم 21 آب 2013، على مجزرة غير مسبوقة في التاريخ السوري، استعمل فيها نظام الأسد صواريخ تحمل غاز السارين، وهي مواد كيميائية محرمة دوليا، قضى على إثرها أكثر من 1400 شهيدا، 201 منهم من النساء، و107 من الأطفال.
سارعت روسيا إلى التدخل بعد وصول تقارير من واشنطن تشير إلى جدية الولايات المتحدة بتوجيه ضربة قاصمة لنظام الأسد، وهنا يروي السفير الاسرائيلي السابق في واشنطن “مايكل اورين” كيف توصلت إسرائيل إلى فكرة تسوية كيماوي الأسد على إثر مجزرة الغوطة، وعن عملها الدؤوب بالتنسيق بين الروس والأميركيين لوقف الضربة العسكرية الاميركية التي كانت مقررة ضد الأسد، في مقابل تخلي الاخير عن ترسانته الكيماوية ودخوله الاتفاقية الدولية التي تحظر امتلاك واستخدام هذا النوع من الأسلحة.
وجاءت المبادرة الإسرائيلية التي حملها الروس إلى واشنطن مخرجًا للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما من جملته الشهيرة بالخط الأحمر، ووصف ما حمله وزير الخارجية الروسي فيما يتعلق بتخلي الأسد عن مخزونه من الأسلحة الكيماوية بالتطور “الإيجابي”، وأن هذا جاء بضغوط إدارته على نظام الأسد، وقال في رسالة لينة للنظام: “على الأسد أن يتوقف عن استعمال الأسلحة الكيماوية، وعليه أن يعرف أن ما قام به خطِر للغاية”.
وبذلك نجى الأسد من العقاب بعد قيام إسرائيل بتسوية قضية أسلحته الكيماوية بالتعاون مع الروس لتجنيبه ضربة أميركية من جهة، وتخليص أوباما من ورطة خطه الأحمر من جهة أخرى، وكذلك تدمير أسلحة الأسد الكيماوية التي ربما تهدد أمن إسرائيل.
الموساد الإسرائيلي يحمي الأسد من محاولة الانقلاب الأخيرة
يحمي الأسد داخل قصره منظومة من شبكات المخابرات الدولية والإقليمية “روسيا وإيران وإسرائيل والولايات المتحدة”، بالإضافة إلى مجموعة مناطقية طائفية من الضباط العلويين المختلفين في ولاءاتهم بين أجهزة مخابرات الدول الفاعلة وبالأخص “إيران وروسيا” وكذلك “سي آي أي والموساد” يتحكم بهم فعليا صراعات عميقة, تتخذ أشكالا متعددة من الاستحواذ على المكانة ضمن الطائفة والقصر الجمهوري, باعتبارهم يتقاسمون الشراكة في مشهد التسلط عبر عقود طويلة, شهدت جولات من الصراعات والتصفيات, كان آخرها قبل أكثر من شهر حيث ظهر فيه الدور البارز للموساد الإسرائيلي عندما شهد قصر الأسد في العاصمة دمشق، محاولة انقلاب تهدف إلى اغتياله.
وأكد مصدر من الطائفة العلوية، أن الأمن المكلف بتقديم الحماية الشخصية لرئيس النظام، قام بتصفية ضابط علوي يرأس مكتب استعلامات القصر بعد اتهامه بخيانة بشار الأسد.
وأوضح المصدر المطلع، أن الضابط الذي تمت تصفيته هو العقيد مازن غصّون، من أبناء الطائفة العلوية، وأكد أنه بعد عملية قتل الضابط تمت الإطاحة بأكثر من عشرة ضباط على رأسهم العقيد عزيز اسكندر المعتقل في سجن صيدنايا العسكري وهو الآخر من مرتبات مكتب الاستعلامات، وبعضهم تم وضعه تحت الإقامة الجبرية، وبعضهم حولته المخابرات إلى القوات النظامية.
هذا, وينحدر كل ضباط مكتب “الاستعلامات” من الطائفة العلوية, والمكتب مسؤول عن تنظيم علاقات القصر الجمهوري مع الجوار، ويقوم بإجراء دراسات حول السكان في المنطقة، إضافة إلى أنه يقوم بتنظيم حركة الموكب الرئاسي عند الدخول والخروج من القصر.
خلاصة
تبين بعد كل أعمال العنف والجرائم والتصفيات، التي قام بها الأسد، أنها لم تكن لتحدث، لولا مراكز القوى داخل القصر الجمهوري التي تملك معلومات دقيقة عما يجري بالتفصيل، وبتوجيه من الموساد الإسرائيلي الذي غالباً ما يستشعر الخطر تجاه الأسد، مع أي تنامٍ للقوى المضادة في دائرة الرئاسة الضيقة، لتكون فرصة مواتية للأسد في كل حين لضرب مراكز القوى العسكرية التي تشكل تهديدا لسلطته, فيما تحوّل رئيس الدولة إلى شخص ضعيف وخائن، في نظر الأغلبية الشعبية بما فيهم الطائفة العلوية التي اكتوت بناره، ممن يخوضون في الجدل اليومي لوقائع ما جرى لطائفتهم من انهيارات في المشهد السوري بعد أكثر من مئتي ألف قتيل منهم وأضعاف ذلك من الجرحى، مقابل بقاء الأسد في القصر الجمهوري الذي تحتله أطراف دولية وإقليمية متناحرة جعلت من سوريا ساحة بديلة لصراعاتها، ومن ذلك: روسيا، وإيران، وإسرائيل, والولايات المتحدة، إلا أن الدور الإسرائيلي يبدو الأكثر تأثيرا ووضوحا، من خلال الموساد باعتبار الأسد “ملاك إسرائيل” الذي أعادته إلى وظيفته السابقة في حراسة الأمن القومي “الإسرائيلي”.
----------
بلدي نيوز –