رحيل زهير رمضان: عنصر المخابرات الذي ضل طريقه إلى الفن

أورينت نت – محمد منصور

برحيل زهير رمضان، الممثل الذي تم تعيينه نقيباً للفنانين في سورية عام 2014، تفقد الساحة الدرامية السورية وجهاً سُلطوياً طالما جسّد تقاليد المؤسسات الفنية المرتبطة بأجهزة الأمن في عهد الأسد. وضمن هذا التقاليد كان ثمة فنانون يعتبرون هذا شراً مفروضاً يحاولون تجنب مفاعيله على فنهم قدر الإمكان، وكان هناك فنانون يعتبرونه امتيازاً وحظوة يجب التمسك بها، لأنها لا تفسد للفن والإبداع قضية.. فبدا وكأن الطريق قد ضل بهم فأوصلهم إلى الفن، فيما أفئدتهم وبوصلة فهمهم وولائهم بقيت في أفرع المخابرات.

 
 كان زهير رمضان من هذا النوع وفي النقابة التي انتسب إليها في ثمانينات القرن العشرين، ظل على مدار عقود عنواناً للنشاط النقابي المؤتمر بأمر "الجهات المختصّة" في كل نشاط موجّه. ونقول "نقابي" تجاوزاً، لأن النقابات في سورية فقدت استقلاليتها التامة منذ قام الديكتاتور حافظ الأسد عام 1980 بحل النقابات في سورية، واعتقال العديد من المحامين والأطباء والمهندسين، الذين نفّذوا إضراباً ضد غياب سلطة القانون في أداء السلطات كافة، ثم إعادة تعيين مجالسها ونقبائها تعييناً لا انتخاباً. 

أدوار تلفزيونية متواضعة

وُلد زهير بن لبيب رمضان في الساحل السوري عام 1959 لأسرة كثيرة العدد أنجبت 11 طفلاً، قبل حصوله على الشهادة الثانوية من مدينة اللاذقية كان قد انتسب لحزب البعث وأصبح عضواً عاملاً فيه، وفي عام 1979 توجه إلى دمشق لينتسب للمعهد العالي للفنون المسرحية، الذي لم يكن يضم حينها سوى قسم التمثيل فقط، وتخرج ضمن الدفعة الثالثة عام 1983 التي أشرفت عليها المخرجة نائلة الأطرش وكان مشروع تخرجها مسرحية (الزير سالم). 
 
لم يلفت زهير رمضان انتباه المخرجين العاملين على الساحة التلفزيونية لدى تخرجه، ولهذا كانت أدواره الأولى في السينما مع المخرج عبد اللطيف عبد الحميد الذي كان مهتماً بتقديم أفلام تعكس خصوصية بيئة الساحل السوري وكان يبحث بطبيعة الحال عن ممثلين يفهمون البيئة واللهجة وخصوصاً في الأدوار الثانوية، فأعطاه دوراً في فيلم (ليالي ابن آوى) الذي أُنتج عام 1988، أما  أولى أدواره التمثيلية في التلفزيون، فقد ترافقت مع ما كان عرف بـ "فورة الدراما السورية" التي أسفرت عن بروز العديد من شركات الإنتاج الخاصة، بعد أن كان الإنتاج الدرامي حكراً على التلفزيون السوري الرسمي لعقود.. باستثناء تجارب قليلة. 
 
كانت بدايات زهير رمضان التلفزيونية من خلال أدوار صغيرة في مسلسلات (الرجل الأخير) تأليف وإنتاج الممثل عبد الله عباسي وإخراج محمد عزيزية وإنتاج 1989، و(شجرة النارنج) للكاتب حسن سامي يوسف، والمخرج سليم صبري الذي عُرض عام 1990، و(الجذور لا تموت) مع المخرج مأمون البني عام 1992، إلا أن الدور الأبرز له في تلك الفترة من حيث المساحة، كان في مسلسل (بسمة الحزن) المأخوذ عن رواية (دمشق يا بسمة الحزن) للأديبة الدمشقية إلفت الأدلبي، الذي أخرجه لطفي لطفي وأنتجه التلفزيون السوري عام 1992، وانسحبت بطلته الممثلة البارزة سمر سامي منه احتجاجاً على ما رأته حينها من "سوء العملية الإخراجية" فأوكل المخرج دورها للممثلة رنا جمّول.

بسمة الحزن ومشوار دراما البيئة الدمشقية 

في (بسمة الحزن) بدا زهير رمضان الذي أدّى شخصية (راغب) شقيق بطلة الرواية (صبرية).. بدا بملامح وجهه ومعرفته بالتفاصيل البيئية التي ترسم إطار شخصيته التمثيلية، غريباً عن بيئة دمشق التي صوّرتها الكاتبة في واحدة من أبرز الروايات التي كُتبت عن دمشق وبيئتها الاجتماعية في القرن العشرين.. وهي سمة طبعت مشاركات زهير رمضان في كل مسلسلات البيئة الشامية، إلى أن أوكل له المخرج بسام الملا، دور مدير المخفر (أبو جودت) في مسلسل (باب الحارة) الذي صُوّر الجزآن الأول والثاني منه عام 2006. 
 
كانت صورة زهير رمضان في أذهان المشاهدين، هي صورة رجل السلطة الفاسد المرتشي الذي لا ينتمي إلى مجتمع الحارة الدمشقية بالعُمق.. ولعل مسار الشخصية وإطارها العام، دفع المشاهد للتعامل معها على أنها دخيلة على البيئة الدمشقية فلا مشكلة أن يكون زهير رمضان في هذا الدور بالذات... ومما لا شكّ فيه حقق هذا الدور شهرة وانتشاراً أوسع له، لكن زهير رمضان المتمسك دائماً بأي فرصة ظهور، استمر في أداء الدور، حتى بعد أن انتزع المنتج الأمّي محمد قبنض حقوق إنتاج أجزاء جديدة من العمل، من منتجه ومخرجه المؤسس بسام الملا عام 2020، وأوكل مهمة إخراج الجزء الحادي عشر منه الذي عرض عام 2021 ولقي فشلاً ذريعاً للمخرج محمد زهير رجب.. في حين امتنع فنانون آخرون ممن بقوا أحياء من أبطال العمل كالسيدة صباح جزائري، ووفاء موصللي وميلاد يوسف ووائل شرف، عن الاشتراك فيه. 
 
وفي إطار دراما البيئة الشامية نفسه، شارك زهير رمضان على مرّ سنوات طوال بالعديد من المسلسلات المتفاوتة القيمة والسوية التي استهلكت عناصر البيئة الشامية في نسج حكائي ساذج وإخراج لا يقل تهافتاً وسذاجة كما  في (طوق البنات – عطر الشام – بروكار) وجميعها من إخراج  محمد زهير رجب وإنتاج محمد قبنض، وقد قُيّض لي مشاهدة أجزاء من مسلسل (بروكار) الذي عُرض عام 2020 وكان أحد أسوأ أعمال البيئة الدمشقية في تاريخ الدراما السورية، وظهر فيه رمضان بدور بطولة وبأداء تمثيلي نمطي خالٍ من الروح.

دراما الشر والأداء التقليدي

إلى جانب مسلسلات البيئة الشامية التي لا تشبهه ولم يبذل جهداً في فهم خصوصية أجوائها ومنطق شخصياتها، حجز زهير رمضان لنفسه حصة شبه دائمة في مسلسلات البيئة الساحلية، مستعيناً بتجاربه السينمائية مع المخرج عبد اللطيف عبد الحميد في تجسيد مثل هذه الأدوار. كان يعتبرها ملعبه ومساحته التي ينبغي على المخرجين أن يحجزوا له فيها دوراً مسبقاً.. وهكذا ظهر في أعمال مثل (البطرني) عام 2001 و(على موج البحر) عام 2009 و(المصابيح الزرق) عام 2012 لكن في كل هذه الأعمال وسواها لم يترك زهير رمضان بصمة في دور أو شخصية تبقى في ذاكرة المشاهد.  
 
كان الإطار الأبرز الذي طبع حضور زهير رمضان التمثيلي في عشرات المسلسلات التي شارك فيها خلال ثلاثة عقود، هو الشخصية الشريرة. كانت طبيعة ملامحه وشكل عينيه، وفهمه النمطي والحاد للدور تؤهله لمثل هكذا أدوار سواء مع مخرجين متميزين، أو متواضعي الموهبة.. وهكذا كانت أدوار الشر التقليدي جواز مروره  للحصول على عشرات الأدوار في مسلسلات يذكره فيها الناس أو لا يذكرونه، فقد ظل فيها مجرد شرير يوصل الفعل والانفعال ولا يرسم عالم الشخصية الداخلي ولا يوحي به.. لم يلامس على الإطلاق الآفاق التمثيلية الأخاذة التي بلغها عملاق تخصص في تلك الأدوار كمحمود المليجي.

رجل السلطة الصغير 

لكن سرعان ما وجد زهير رمضان نفسه أكثر في أدوار رجل السلطة، رجل السلطة الصغير..  سواء كان مدير مخفر، كما في (باب الحارة) أو كان مختار ضيعة كما في (ضيعة ضايعة) الذي كتبه ممدوح حمادة، وأخرجه بنجاح المخرج الليث حجو عامي (2008- 2010) التصقت شخصية (عبد السلام بيسة) مختار قرية أم الطنافس بزهير رمضان، التي نجح بأدائها بلا شك، بإدارة مخرج أدار بمهارة وذكاء مجموعة من الكاركترات الكوميدية النمطية المرسومة بمبالغة فنية حاذقة. 
 
في مسيرة زهير رمضان دور سينمائي مهم قدّمه في الفيلم السينمائي الرائع للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد (رسائل شفهية) الذي أنتجته المؤسسة العامة للسينما، ولعب بطولته فايز قزق ورنا جمول.. فيما حضر زهير رمضان مع شقيقه الذي كان فتى يافعاً حينذاك بأدوار بطولة. 
 
كان زهير رمضان هنا ضابطاً في الجيش، يجسّد نمط التربية القاسية مع ابنه المراهق، الذي يفشل في امتحان حفظ جدول الضرب باستمرار.. جسّد زهير رمضان هنا شخصية العسكري القاسي بشيء من الظرف الذي تنطوي عليه تركيبة الفيلم ككل.. أبدع في إظهار ملامح القسوة والتشدد وهو يتلذذ بضرب (الفلقة) على باطن قدمي ابنه.. وتلك كانت سمة عامة في أدائه لشخصيات ابن السلطة المتشدد.

سخرية هاني الروماني التي ذهبت مثلاً!

قطع زهير رمضان شوطاً كبيراً في مسيرة تمثيلية علاماتها البارزة قليلة ومعدودة على أصابع اليد الواحدة. كانت الأدوار التي يحصل عليها جزءاً من شراسته في خوض النشاط النقابي على الطريقة الأسدية.. كان التهديد الضمني بعرقلة الأعمال الفنية التي لا يكون موجوداً فيها جزءاً من معركته لحصد الأدوار بشراهة. وبعد أن شغل مناصب فرعية عدة في النقابة، تمكن عام 2014 من الوصول إلى منصب النقيب.. وراح يطلق التهديدات ضد زملائه الذين خرجوا من البلاد وانحازوا للثورة السورية ليس بفصلهم من النقابة وشطب اسمهم من سجل الفنانين فحسب، بل بمنعهم من العودة إلى حضن الوطن: "حتى لو قبلت الدولة أنا لا أقبل ولا أسامح" كان يشعر أنه هو الدولة، وكان يفخر لفظياً لا مجازياً بأنه "كلب المخابرات" كما قال في إحدى لقاءاته المصورة. وكان دخوله إلى ما يسمى (مجلس الشعب) عام 2018 تحصيل حاصل في برلمان شكلي عاجز وموبوء ولا ينال احترام أحد من السوريين. 

وربما كان أفضل ما يمكن أن يفسّر دور زهير رمضان وطبيعة حضوره في الوسط الفني، النكتة اللاذعة التي أطلقها عليه الفنان هاني الروماني حين تم تعيينه رئيساً لإحدى فروع نقابة الفنانين. قالوا لأبي علي (وهذه كنية هاني الروماني) : لقد تم تعيين زهير رمضان رئيساً لفرع النقابة.. فأجاب ساخراً: "ومين عيّنوا بدالو بفرع المنطقة".. وذهبت هذه النكتة الهجائية مثلاً سائراً عنه في الوسط الفني. 
 

رحل زهير رمضان في 17/ 11 عن (62) عاماً، جاء في ورقة نعيه أنه "قضاها في الصلاح والتقوى" وربما تمنى زهير لو كان له الخيار، لو أنقص عمره يوماً، كي يتوافق مع ذكرى الحركة التصحيحية المجيدة التي قادها "القائد الخالد" حافظ الأسد، الذي طالما فداه وفدى وريثه من بعده بالروح والدم.. حتى أسلم الروح!