الزيارة وفق هذه المواصفات، تكشف عن الطريقة التي ينظر فيها الرئيس بوتين إلى حكومة الأسد، وكذلك تكشف كيف ينظر إلى سوريا، باعتبارها دولة تقع تحت نفوذ بلاده، وتحت حماية قواته المسلحة. هذه الطريقة يقابلها في الضفة الأخرى غياب أي معنى لسيادة هذه الدولة، إذ إن البروتوكول الدبلوماسي يقتضي استقبال الرئيس الأجنبي الزائر للبلاد من قبل رئيس الدولة المضيفة، أو من يمثله، وهذا لم يحدث.
 
 
إن المحادثات التي جرت في مقر قيادة القوات الروسية بدمشق بين الرئيس بوتين ورئيس النظام السوري هي محادثات لا تتصف بصفة محادثات بين دولتين مستقلتين، بل هي تعبير عن وضع غير سوي تعيشه سوريا، وتمارس عبره القيادة الروسية صلفها بحق نظام سياسي رهن نفسه وموارد دولة يحكمها لمصلحتها، وهذا ينفي عن النظام بأنه حكومة شرعية.
الشرعية هنا تعني أن يكون التعامل بالمثل ووفق البروتوكول الدبلوماسي، وهذا لم يجرِ في هذه المحادثات، إذ إن من الأصول أن تتم المحادثات بين الطرفين في مقر سيادة الدولة، أي القصر الجمهوري، وقبول رئيس النظام بهذه الصيغة، يشير إلى أن أوراق قوته قد ذهبت مع ريح التدخل العسكري الروسي ضد الثورة السورية.
هذا المقابل يبدو بالنسبة لبوتين موضوعيًا، فلولا قواته المسلحة، وتدخلها في شأن الصراع السوري، لمصلحة تعويم النظام، ما كان الأخير ليبقى صامدًا بوجه الثورة، كما أعلن الروس ذلك مرارًا، وهذا معناه أن القرار السيادي السوري صار شأنًا روسيًا، والدليل هو ما صرّح به بوتين في أثناء محادثاته مع رئيس النظام حيث قال: “إنه تمّ اجتياز طريق هائل نحو إعادة ترسيخ الدولة السورية ووحدة أراضيها”.
حديث بوتين عن “ترسيخ الدولة السورية ووحدة أراضيها” له غايات أخرى غير حرفية الكلمات الدالة في هذه العبارة، فواقع الحال، وبنظرة موضوعية إلى الجغرافيا السورية، يمكن للمرء أن يعرف، أن شمال شرقي سوريا هو خارج الحيز الذي يستطيع بوتين الادعاء بأنه ضمن الأراضي التي يحكمها الأسد، كذلك الحال في الشمال السوري، حيث لا تزال فصائل المعارضة السورية هي التي تحكم هذه المناطق.
إذًا، حديث بوتين، وطريقة زيارته لدمشق، التي انتقل منها إلى تركيا لإجراء محادثات مع قيادتها، ولافتتاح خط السيل التركي الناقل لغاز روسيا نحو أوروبا، يكشفان عن رغبة روسية بتوجيه رسائل إلى العالم الخارجي بالدرجة الأولى.
هذه الرسائل ذات مضمون يعبر عنه أسلوب الزيارة، ولعل أولى هذه الرسائل، أن بوتين وكأنه لم يقم بزيارة دولة أخرى، بل انتقل من موسكو إلى مناطق تقع تحت نفوذ قواته المسلحة (سوريا)، وما دام الأمر كذلك، فالمعني بإدارة الشأن السياسي السوري هم الروس، والدليل أن محادثات بوتين مع رئيس النظام تمّت في مقر قيادة القوات الروسية في دمشق، وهذا يعني أن لا سيادة للحكومة السورية دون وجود القوات الروسية، ودون إرادة قيادة الكرملين.
ويمكن القول إن الرسالة الثانية الموجهة للخارج الدولي، تتمثل بأن من أراد البحث عن حل سياسي للصراع في سوريا عليه أن يفاوض روسيا، فالروس هم من يحكمون الأوضاع السورية في هذه المرحلة من الصراع، وأن النفوذ الروسي دُفعت قيمته عسكريًا، ولهذا لن يقبل الروس بأقل من الحفاظ على حصتهم من كعكعة الحل السياسي في هذا البلد، التي تتمثل بالمحافظة على القاعدتين العسكريتين في طرطوس وحميميم، وكذلك على دورهم في تسليح الجيش السوري بعد الانتقال للنظام السياسي الجديد، إضافة إلى الامتيازات الاقتصادية ومنها ما يتعلق بإعادة الإعمار فيما بعد.
بوتين بزيارته هذه لدمشق، يعرف أن الأمور في المنطقة، وفي ساحة الصراع السوري، ستتغير بعد مقتل زعيم ما يسمى “فيلق القدس” الإيراني، قاسم سليماني، ويعرف أيضًا أن معادلة الصراع الإقليمية السابقة ستتغير لغير مصلحة النفوذ الإيراني، فالولايات المتحدة التي اغتالت سليماني، كانت تريد من إيران أن ترتكب غلطتها التاريخية، فتهاجم القوات الأمريكية، أو مصالح الولايات المتحدة في المنطقة أو في العالم، ليصير مبررًا شن الحرب عليها وتدمير برنامجها الصاروخي والنووي، وطردها من محيطها الإقليمي.
وبوتين يدرك أن أسبابًا وجيهة تقف خلف الاستفزاز الأمريكي لإيران، منها الموقف الانتخابي المقبل للرئيس، دونالد ترامب، ومنها ما يجري لسيد البيت الأبيض من محاولة محاكمة له أمام الكونغرس بقصد إزاحته. ولهذا ذهب بوتين إلى دمشق ليذكر الأمريكيين بأنه مستعد لفرض صيغة سياسية تحكم سوريا يمكن التفاوض عليها معه، ينتهي بها الصراع في هذا البلد، وأن نظرته للنظام السوري ليست أبعد من أنه نظام يحكمه الكرملين وليس قصر المهاجرين بدمشق.
إن زيارة بوتين بدلالاتها التي أشرنا إليها، تريد أن تقول إن زمن إيران في سوريا والمنطقة قد انتهى، وإن مرحلة جديدة قريبة ستبدأ، تتمثل بانحسار الدور الإيراني، وبإعادة ترتيب الأوضاع السياسية في الإقليم، وهذا يعني أن أوضاعًا مختلفة ستحكم اتجاهات الحل السياسي في سوريا وفق القرار الدولي 2254.
إن هذا المعطى السياسي الروسي، يريد أن يوضح، أن النظام السوري بصيغته الحالية، التي تنتظر تطبيق قانون “سيزر” عليها، لن يمكنه العيش في المرحلة المقبلة، ولهذا لا بد من طريق بديل، وهذا الطريق توضح بصورة جلية في طريقة زيارة بوتين لدمشق، وأسلوب الاجتماع بينه وبين رئيس النظام السوري خارج مقرات السيادة السورية، المفترض أن تكون في القصر الرئاسي.
بقي أن نقول إن بوتين يبحث عن تكيّف ممكن في ظل تغيرات دراماتيكية ستشهدها منطقة الشرق الأوسط، فهل يستطيع فعل ذلك من خلال المقايضة عبر البوابة السورية؟ ننتظر بعض الوقت لتتضح الصورة أكثر فأكثر.