في الوقت الذي تحيي فيه فرنسا الذكرى المئوية الثانية لوفاة أحد أبرز أبطالها التاريخيين نابليون بونابرت، أُثيرت تساؤلات حول مدى شمولية ومصداقية التاريخ البرّاق الذي تروّجه فرنسا لأعظم عسكرييها، بما يخفي الجوانب المظلمة لتلك الحقبة التي وصل فيها النفوذ الفرنسي العالمي إلى أعلى مستوياته.
ويمكن لمناقشة مسألتي العبودية والاستعمار خلال الفترة الإمبراطورية في فرنسا، أن تفتح الطريق أمام فهم مختلف للجوانب المسكوت عنها في تاريخ تلك الفترة؛ فبونابرت الذي يتذكره كثيرون قائداً عسكرياً فذّاً، يراه آخرون مستعمراً أبيض أتى لنهب ثورات بلادهم، أو أحد أبرز الشخصيات التي رسّخت العبودية في المستعمرات الفرنسية ما وراء البحار.
نابليون المستعبد
أوريلي راماسامي مثلاً ستظل تراه "طاغية ألغى القانون الفرنسي القاضي بإلغاء العبودية"، وفقاً لتقرير نشرته رويترز، بعنوان "لنابليون إرث أكثر إشكالية في مستعمرات ما وراء البحار "، لرصد الكيفية التي ينظر بها أبناء المستعمرات للفاتح الفرنسي الأعظم.
وينقل التقرير عن راماسامي وهي مواطنة ملوّنة من جزيرة ريونيون الفرنسية بالمحيط الهندي، غضبها من فكرة الاحتفاء بنابليون، لا سيما أن ذلك يحدث بالتزامن مع استمرار الاحتجاجات المرتبطة بحركة "حياة السود مهمة"، في ظل تصاعد في معدلات العنصرية التي يتعرض لها المواطنون غير البيض في الدول الغربية.
ويشير منتقدو بونابرت إلى القرار الذي اتخذه عام 1802، بإصداره مرسوماً أعاد العبودية في منطقة الكاريبي والجزر المستعمرة فرنسياً، بعد إلغائها عام 1794، على خلفية ثورة العبيد في المستعمرة الفرنسية هاييتي.
ويرى المؤرخون السود أن علاقة نابليون بونابرت باستمرار العبودية في تلك المناطق لم يُتعاطَ معها بشكل جاد في فرنسا التي لا تزال عالقة في ماضيها الاستعماري الذي يلقي بظلاله على أنماط تعاملها مع الدول الأخرى، أو حتى مواطنيها من الأقليات العرقية والدينية.
يُذكر أن فرنسا حوّلت خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر دولاً إفريقية منها السنغال وساحل العاج وبنين إلى نقاط لتجارة وتوريد العبيد، بعد قرار أصدره الملك لويس الثالث عشر باقتحام بلاده مجال تجارة العبيد الذي كان الإنجليز والبرتغاليون والإسبان بدؤوه في وقت سابق.
ووصل الأمر إلى ذروته عام 1672، عقب تشجيع الملك لويس الرابع عشر هذه التجارة، بالإعلان عن تقديم مملكة فرنسا مكافأة قدرها 13 جنيهاً لكل من يأتي بـ"رأس زنجي" من إفريقيا.
وبخلاف 8 أعوام بين 1794 و1802، ظلّت فرنسا أحد حراس معبد العبودية وتجارة العبيد، حتى إصدار مرسوم بإلغائها في مستعمرات فرنسا عام 1848.
نابليون المستعمر
وفيما يحظى نابليون باحترام على نطاق واسع ليس فقط بوصفه أحد العباقرة العسكريين الذين شهدهم العالم، ولكن أيضاً باعتباره مسؤولاً سياسياً بارعاً وُضِع في عهده قانون العقوبات الفرنسي وأُرسيت قواعد النظامين الإداري والدراسي خلال عشرة أعوام كانت فترة حكمه فرنسا، تتجاهل أبعاداً أخرى ربما لا تقل أهمية، لا سيما بالنسبة إلى الضحايا وأبنائهم.
وفي هذا الصدد، يشير الكاتب محمد سرحان إلى ما كان للغزو الفرنسي الذي قاده نابليون على مصر والشام من آثار مدمّرة، مضيفاً في مقال نُشِر على موقع TRT عربي، أنه لا يمكن تجاهل ما فعله "الفرنسيون بمصر من قتل ونهب واقتحام للأزهر بخيولهم الذي كان منارة العالم الإسلامي حينها ومركز الثورة ضد الفرنسيين".
ويبدي سرحان في مقاله استغرابه من إصرار كتاب ومؤرخين عرب على تجميل حملة نابليون، ووصفها بأنها كانت فاتحة التنوير في المنطقة، على الرغم من الجرائم الهائلة التي ارتُكِبت خلال 3 أعوام فقط كانت عمر بقاء الفرنسيين في مصر.
واقع ممتد
على الرغم من مرور عقود على حقبة الاستعمار والعبودية الفرنسية، فإن الأمر لا يبدو أنه انقضى تماماً لدى سياسيي وحكومات الجمهورية الفرنسية الخامسة؛ فعلى سبيل المثال نشرت مجلة "فالور أكتييال" اليمينية الفرنسية في أغسطس/آب الماضي، صورة للنائبة من أصل إفريقي، دانييل أوبونو، وهي مقيّدة بالسلاسل من رقبتها كما لو كانت عبدة.
وتسببت الصورة في غضب واسع داخل فرنسا وخارجها، لا سيما أنها جاءت بالتزامن مع الاحتجاجات العالمية التي خرجت منددة بمقتل المواطن الأمريكي من أصل إفريقي جورج فلويد على يد ضابط شرطة يُعتقد بأنه اشتبه فيه فقط للونه.
حينها قالت أوبونو المولودة في الغابون وتشغل مقعداً في الجمعية الوطنية الوطنية عن الحزب اليساري "فرنسا لم تنحنِ" إن "الصورة تعتبر إهانة لأجدادي ولعائلتي ولحركتي السياسية"، وأضافت أنها "أكثر تصميماً من أي وقت مضى على محاربة العنصرية، والعمل من أجل الحرية والمساواة والأخوة".
وعندما حاول المتظاهرون ضد العنصرية في فرنسا، هدم وتخريب تماثيل لشخصيات معروفة بماضيها الاستعماري، خرج الرئيس إيمانويل ماكرون مستنكراً تلك الأفعال ومؤكداً أن حكومته ستظل ملتزمة حماية وصيانة تلك التماثيل، بذريعة أن القضية النبيلة التي تتمثل في محاربة العنصرية قد تفسد عندما تتحول إلى تعصب عرقي وإلى كتابة بغيضة للتاريخ"، وفق ما أوردت قناة فرانس 24.
وفي هذا الصدد، اعتبرت الباحثة التاريخية كارول رينو باليغو، في تصريحات للقناة نفسها، أن "التصريحات فرصة ضائعة"، لمصالحة حقيقية بين فرنسا وماضيها، مضيفة أن "نظام العبودية لا يتناسب مع خطاب فرنسا حول حقوق الإنسان، لذلك يُخفى هذا الجانب، مقابل إبراز أمور أخرى يُسوّق لها على غرار ما نقلته الدولة الفرنسية من حضارة وتنوير إلى مستعمراتها".
وفي السياق نفسه، يستعد ماكرون قريباً لإلقاء كلمة بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لوفاة بونابرت، قبل وضع إكليل من الزهور على قبره، في تجاهل لما مثّله الجنرال الفرنسي من أشياء تختلف تماماً عن براعته العسكرية وحنكته السياسية.
ومجدداً تنتقي فرنسا من تاريخها ما يعجبها، وتغض الطرف عمّا دون ذلك.