مآسي لبنان بين غادة عون وجان العليّة

فارس خشان

إذا أخرجنا ما يعيشه لبنان، في هذه الأيّام، بفضل النائب العام الإستئنافي في جبل لبنان غادة عون، من الإطار الروائي أو السينمائي، تبوخ المعاني وتتيه المقاصد.

 
كَثرة الجد، في نقاش حالة عون "الظريفة" غير محبّذة، ليس لأنّ إدراك خروجها عن القواعد القضائية والمعايير القانونية بديهي للغاية ولا يحتاج إلى مرحعيّات "دالّوز" الفقهية فحسب، بل لأنّ هذه الحالة لا تخرج عن الإطار الجنوني الذي أوقعت فيه السلطة الحاكمة كلّ لبنان وكلّ مؤسساته وجميع شعبه، أيضاً.
إنّ غادة عون تحمل لقب قاضية ولكنّها لم تعد كذلك، مثلها مثل حالات كثيرة في لبنان، فرئيس الجمهورية لم يعد له من وظيفته الدستورية سوى الإسم، و"حزب الله" لم يعد لديه من وظيفة "المقاومة" إلّا الصفة، والرئيس المكلّف تشكيل الحكومة لم يعد، في الواقع، أكثر من الرئيس المنتظِر تشكيل الحكومة، والحبل على...الجرّار.
 
ولم تجد غادة عون مخرجاً لتحفر اسمها في سجل كبار اللاعبين في لبنان-حكّاماً كانوا أو متحكّمين-سوى أن تلحق بقافلة "المنتقمين" الأسطورية التي تؤمن بوجوب إنزال العقاب اللازم بمن ترتأيه هي مذنباً، وفق معاييرها الخاصة واهوائها ومصالحها، بوسائل يعاقب عليها القانون. 
 
ويبني "المنتقمون" مشروعيتهم على حالة شعبية تتطلّع الى العدالة في مجتمع كثرت فيه مشاعر الظلم أو سطوة المافيات وتشتّت الإنتماءات، وسط عجز مؤسساتي هنا وتواطؤ سلطوي هناك.
 
وقد تخيّلت غادة عون نفسها "جندارك" تحرير لبنان من احتلال الفساد، فامتطت حصانها وشهرت سيفها وهجمت، بحماية الرئيس ميشال عون الذي يصوّره لها خيالها بأنّه ليس سوى الملك الفرنسي شارل السابع.
 
بالنسبة لغادة عون، وحده "الملك" ميشال عون يفرّق بين الصالح والطالح. هي في هذا الموضوع لا تُناقش، بل تُنفّذ.
ولا يستطيع أحد أن يلوي ذراع غادة عون في ما تتطلّع الى تحقيقه، فتجاوز الموانع القانونية سهل، من خلال تشويه نظرية "روح القانون"، واحتقار أوامر رؤسائها يتقدّس، بمجرد إدراج هؤلاء في خانة خادمي المافيات، وحماية نفسها من "المحرقة" مؤمّنة، على اعتبار أنّ الوفاء عند ميشال عون يتقدّم على ذاك الوفاء الذي افتقده شارل السابع في تعاطيه مع جاندارك الأسيرة، ودليلها على ذلك مواقف متعدّدة أصدرها ملهمها "الإنتقامي" الكبير حسن نصرالله.
 
وغادة عون ليست وحدها في الميدان، فإلى جانبها يقف أمثالها من المؤمنين بمعايير عون عن الصالحين والفاسدين، ولهذا، فهي، في أي لحظة من لحظات الضعف، تطل على هؤلاء، فيصفقون لها، فتمتلئ قوة وسؤدداً، ما يعينها على أن ترفع لهم شارة النصر.
 
وليس لدى ميشال عون من هو أغلى من غادة عون لإلهاء اللبنانيين عنه وعن سمعته، في هذه المرحلة الدقيقة التي يُخصّصها لبناء مستقبله ومستقبل عائلته.
ومن يمكن أن يلهي اللبنانيين عن الواقع ومآسيه وتداعياته أكثر من غادة عون؟ 
 
بفضل سلوكها نسي اللبنانيون العقوبات التي أنزلتها واشنطن ب"صهره المدلل" جبران باسيل الذي هو أقرب إليه ممّا كان جيان تشانو الى والد زوجته بنيتو موسوليني، فلولا غادة عون لاستعاد الجميع حيثيات العقوبات المستندة الى الفساد، مع زيارة ديفيد هيل للبنان، حيث لم يستثن من لقاءاته السياسية سوى "الصهر" و"حزب الله".
 
وبفضل غادة عون، تهاوت أبعاد الإعلان عن استعداد الإتحاد الأوروبي، بدءاً بالأسبوع المقبل، لإعداد لائحة بالعقوبات والمعاقبين، على خلفية عرقلة تشكيل حكومة جديدة في لبنان التي ينسبها كثيرون الى الرئيس عون و"الصهر".
 
والأهم، أنّ "انتقامية" غادة عون وضعت على الرف ملفات الفساد الضخمة في وزارة الطاقة-الأكثر إرهاقاً للخزينة وتعظيماً للدين العام-التي كشفها، في وجه "تيّار غادة عون" المدير العام لإدارة المناقصات جان العليّة، وأنست اللبنانيين ما تسبّب به التهريب الى النظام السوري "حليف عون"، ولا يزال، في ضوء الأرقام التي كشفها في "لوفيغارو" الفرنسية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، في سياق الدفاع عن نفسه من التهم التي تلاحقه.
 
وإذا ما تمّ جمع ما فضحه جان العليّة مع ما أكده رياض سلامة، يتبيّن أنّ جزءاً كبيراً من المآسي التي يعاني منها اللبنانيون، يعود الى ما اقترفه تيّار عون، من جهة وحلفاء هذا التيار، من جهة أخرى.
 
وحدها "تخيّلات" غادة عون الجنداركية كانت قادرة على طمس كل هذه الوقائع والفضائح، فليس هناك ما يمكن أن يخطف الأبصار أكثر من الأفلام المشوّقة، فكيف إذا كانت تجري وقائعها، في وقت حقيقي وبأشخاص حقيقيين؟
-------
النهار