مبدأ الدومينو يهدد تحالف بوتين المعادي للديمقراطية

د. عماد بوظو



ظهرت نظرية الدومينو في السياسية في خمسينيات القرن الماضي وتختصر بأنه إذا حدث تغيير في إحدى الدول، فإن ذلك سيؤدي إلى تغييرات متتالية في أنظمة الحكم في الدول ذات الأنظمة المتشابهة. وكان المقصود حينها أن انتصار الشيوعية في فيتنام سيؤدي لانتصارها في كمبوديا ولاوس وتايلند، كما يحدث في أحجار الدومينو المصفوفة والتي يؤدي سقوط كل حجر إلى دفع ما بعده للسقوط حتى آخر واحد.

  وبالفعل بعد فيتنام سقطت الأنظمة في كمبوديا ولاوس، ولكن ذلك الانتصار لم يدم طويلا. وفي عقد الثمانينيات حدث تطبيق حقيقي لمبدأ الدومينو في انهيار الأنظمة الديكتاتورية عبر العالم التي بدأت بالأرجنتين نتيجة خسارة النظام العسكري حرب الفوكلاند وانتقلت من بلد إلى آخر حتى سقوط ديكتاتوريات أميركا اللاتينية وجنوب آسيا وأوروبا الشرقية وانتهت بانهيار الاتحاد السوفييتي نفسه وخروج ثلاثة عشر جمهورية منه.
من المستبعد توقّف التظاهرات والاحتجاجات في كثير من أنظمة الحكم الفردية
في عام 2011 شاهدت الشعوب العربية عيانيّا مبدأ الدومينو في انتقال التظاهرات والاحتجاجات خلال أيام من تونس إلى مصر ثم ليبيا وبعدها اليمن ثم سوريا تحت شعار واحد "الشعب يريد إسقاط النظام". وكان لوصول هذا الشعار إلى أوكرانيا مطلع عام 2014 وإسقاط الحكومة الموالية لموسكو العامل الحاسم الذي دفع فلاديمير بوتين لانتهاج سياسة هجومية تمثّلت في دخول قوات عسكرية لشرق أوكرانيا واحتلال جزيرة القرم عام 2014، ثم إرسال قوات عسكرية لسوريا في العام التالي لمنع انتصار الثورة وبناء نظام ديموقراطي، لأن ذلك قد يشجع على انتقال الاحتجاجات من الجارة أوكرانيا التي تشترك مع روسيا بالعرق السلافي والكنيسة الأرثوذكسية إلى الداخل الروسي.
لم يكن هذا الاندفاع الروسي ممكنا لولا غياب الولايات المتحدة نتيجة السياسة الانعزالية التي اعتمدها الرئيس باراك أوباما، والتي كشفتها بوضوح قضية الخط الأحمر الكيماوي في سوريا.
أعلن الكرملين عن معارضته التامّة لما أسماه الثورات الملونة، ورفضه لفكرة عزل نظام سياسي من قبل مواطنيه مهما كان فاشلا وفاسدا ومهما تدهورت أحوال شعبه، وسبق للمحلل العسكري أليكساندر غولتز أن قال: "بالنسبة لبوتين فإن مكافحة الثورات الملونة مسألة أساسية، ليس المهم مكان وقوعها سواء كان سوريا أو فنزويلا فالقيادة الروسية تعتبر أي محاولة من السكان المحليين للتخلص من زعيم سلطوي مؤامرة تدبرها الاستخبارات الأجنبية.
سرعان ما سطع نجم بوتين في السياسة الدولية، بحيث حصل في السنوات بين 2013 حتى 2016 على المركز الأول في قائمة فوربس للأشخاص الأكثر نفوذا في العالم، ونجح خلال تلك الفترة في تشكيل تحالف بين مجموعة من الدول تختلف حول كثير من القضايا لكنها تتفق في عدائها للديمقراطية، مثل روسيا وإيران وتركيا وبعض الدول العربية.
وكان الانطباع حينها أن الديكتاتوريات وأنظمة الحكم الفردية في طريقها لكسب المعركة، إذ بدأت بالترويج لانتصار النظام السوري وتدعو العالم للاعتراف بهذه "الحقيقة" وتطبيع العلاقات معه، بالإضافة لمحاولة تسويق قائد عسكري ليبي هو خليفة حفتر كزعيم جديد يعيد إنتاج نظام لا يختلف عن نظام القذافي.
إلى أن بدأت الموجة الجديدة من الاحتجاجات ضد الأنظمة الديكتاتورية في السودان والجزائر وفنزويلا والتي تعتبر جزءا من هذا المحور، لذلك رفض بوتين التدخلات الأميركية والغربية في شؤون فنزويلا وأكد على أن نيكولاس مادورو هو الرئيس الشرعي الوحيد لها.
دفعت هذه التظاهرات أنظمة الحكم الفردي للتشديد من قبضتها الأمنية
ثم اتخذت الحكومة الإيرانية موقفا مطابقا لموسكو نتيجة علاقاتها الواسعة مع فنزويلا بما فيها التعاون في تجارة المخدرات. واتصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بمادورو وقال له: "قف شامخا يا أخي مادورو فنحن نقف إلى جانبك". وقامت إحدى الدول العربية بشراء بضعة أطنان من ذهب فنزويلا وفّرت لمادورو بعض العملة الصعبة لتأمين الحاجات الضرورية لنظامه.
كما أعلنت دول عربية وتركيا وروسيا وقوفها مع البشير في السودان، وبعضها دعمه بالمال. وأيد هذا المحور الشخصيات العسكرية الغامضة التي تحكم الجزائر منذ سنوات تحت اسم بوتفليقة، رغم أن وضع هذا الحلف كامل ثقله خلف الأنظمة التي تشهد احتجاجات ومراهنته عليها سيجعل من انهيار أحدها ضربة استراتيجية له قد تنعكس على استقرار بقية دول الحلف.
ودفعت هذه التظاهرات أنظمة الحكم الفردي للتشديد من قبضتها الأمنية؛ ففي روسيا تم فرض عقوبات جديدة بحق من أسمتهم الخارجين عن النظام العام، والذين ينشرون معلومات تهدد الأمن، بما فيهم المعترضين على الفساد أو تزوير الانتخابات وحتى الداعين للمحافظة على البيئة، كما تم تصنيف منظمات المجتمع المدني كعميل أجنبي، وصدر قانون خاص يعاقب إهانة رموز الدولة، وهذا يختصر عادة بشخص الرئيس.
كما وضعت الحكومة الروسية خطة لإخراج الإنترنت من الشبكة الدولية إلى خوادم محلية ممّا سيعني عزل روسيا عن العالم ومراقبة الإنترنت من قبل الحكومة، والذي أدّى إلى قيام تظاهرات احتجاج في العاشر من مارس/آذار الحالي شارك فيها خمسة عشر ألف شخص، وهو رقم غير قليل في ظروف روسيا الحالية.
وصدرت في مصر لائحة "تنظيم الإعلام" والتي تتضمن عقوبات وغرامات على بث أي خبر يتحدث عن فساد، أو يتضمن إلقاء اتهامات، أو إجراء حوارات مع شخصيات "غير مؤهلة".
وفي الشهر الحالي حكمت محكمة في تركيا على 15 شخصا بينهم ضباط شرطة بالسجن المؤبد لأنهم ساعدوا عام 2013 بالكشف عن منظومة فساد كبيرة مقربة من أردوغان كانت تعمل مع إيران للالتفاف على العقوبات الدولية بحقّها.
كما كثرت خلال شهر آذار/مارس الحالي تصريحات رؤساء روسيا ومصر الموجهة للداخل، ففي ندوة صحفية حذّر الرئيس السيسي من التظاهرات والاحتجاجات التي تشهدها دول مجاورة لأن لها ثمن ستدفعه الأجيال القادمة على حد وصفه، وطالب المصريين بأن يشرحوا لأبنائهم مدى الخسارة التي عادت على البلد من خلال الثورة على مبارك "رغم أنها هي سبب وصول السيسي للسلطة"، كما نبّه من استخدام وسائل الاتصال الحديثة لنشر الشائعات وتحطيم ثقة الناس بقياداتها، وأكد على أن الخطر الرئيسي على البلاد ذو منشأ داخلي.
وعلى العكس من ذلك يكرر بوتين دوما بأن الشعب يؤيده ولكن الأخطار على نظامه تأتي من الخارج، فقد حذّر في كلمة أمام ضباط جهاز الأمن الفيدرالي الروسي "المخابرات الداخلية" من أن الأوضاع المعقدة في الشرق الأوسط والعالم تنعكس على روسيا، وقال إنه تم كشف 600 جاسوس أجنبي داخل البلاد خلال العام الماضي، في تأكيد على روايته بأن روسيا قلعة يحاصرها الغرب.
أعلن الكرملين عن معارضته التامّة لما أسماه الثورات الملونة
من المستبعد توقّف التظاهرات والاحتجاجات في كثير من أنظمة الحكم الفردية لأن مشاكلها لا تقتصر على المجال السياسي. ففي فنزويلا والسودان وسوريا وإيران وقطاع غزة هناك أيضا أسباب اقتصادية ومعيشية عميقة، حيث وصل الفقر فيها إلى مستويات غير مسبوقة، وبدون معالجة ذلك لا يمكن توفير استقرار طويل المدى.
اقتصاد هذه الدول منهار ومحاولة إنقاذه تتطلب أموالا ليست في متناول هذا المحور بما فيها تلك التي كانت تملك فائضا نقديا مثل روسيا وتركيا ودول الخليج المتحالفة مع بوتين وإيران، لذلك فإن كل ما يستطيع المحور الروسي فعله هو إطالة عمر هذه الأنظمة قليلا، وبالتالي إطالة أمد معاناة عشرات ملايين الجائعين فيها.
وبما أن انتصار هذه الأنظمة بشكل كامل ونهائي على المدى الطويل مستبعد، وبما أنها لا تملك القدرة على تقديم حلول سياسية معقولة أو مقبولة، لذلك تنحصر خيارات المحور البوتيني بين إبقاء الأنظمة السابقة كما كانت بدون أي تغيير أو بقاء هذه البلاد في حالة من عدم الاستقرار والمعاناة الدائمة، لأن الأمر الوحيد الذي لا يمكن قبوله عند هذا الحلف هو تحول أي من هذه الدول إلى النظام الديموقراطي لأنها بذلك قد تحرّض على موجة جديدة من الدومينو لا يمكن التنبؤ بحجمها ومداها.
--------
الحرة