محاكمة متأخرة لعلاء الأسواني

هشام أصلان


بينما انتشرت في صفحات التواصل الاجتماعي، تدوينات تشير إلى تحويل الروائي المصري علاء الأسواني للمحاكمة العسكرية، تساءلتُ لثوانٍ: كيف فات هذه السلطة أن تفعلها منذ فترة؟ هذا الكاتب أكثر إزعاجًا لها من كثيرين يتم التنكيل بهم بأشكال مختلفة، من بينها الوقوف أمام القضاء العسكري. وهذا زمن يحمل الحديث فيه عن منطق حرية الرأي عبثًا واضحًا.

 

حزن مقيم. يعز على المرء منّا أن يكون هذا هو المنطق الوحيد للتفكير، غير أن الواقع "فشخ" الخيال منذ فترة أصبحت كافية لأن نعي ما نعيش، ويصير الاجتهاد الوحيد للكُتّاب والمشغولين بالرأي هو: كيف تمشي على حبل رفيع من دون الوقوع في ما قد يذهب بك وراء القضبان؟ الأسواني متهم بإهانة الرئيس والتحريض على نظام الحكم.

أحوال الصحافة في مصر لا تسمح بتوفير مصدر رسمي لهذا النوع من الأخبار، لكن خبراً نشرته جريدة "فيتو" قبل أيام، ومر مرور الكرام، تحدث عن بلاغ قدّمه محام يدعى أيمن محفوظ للمدعي العام العسكري، يطالب فيه بإحالة الأسواني للمحاكمة العسكرية بتُهم "تتعلق بإهانة الرئيس والقوات المسلحة والقضاء، في مجموعة مقالات كتبها على موقع وصحيفة ألمانية شهيرة"، ويقصد موقع "دويتشه فيليه". وأضاف الخبر على لسان المحامي صاحب البلاغ، أن مقالات الأسواني تحمل إهانة للرئيس، الذي هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وأن النظر في إهانة القوات المسلحة أو المخالفات القانونية المتعلقة بالعسكريين "يختص القضاء العسكري وحده بالنظر فيها".

في زمن آخر، وطبعًا في مكان آخر، كان بديهيًا أن يمر البلاغ كما مرّ الخبر، مرور الكرام، لكننا لسنا في زمن آخر ولا مكان آخر.

الأسواني كتب مقاله الأسبوعي، أمس الثلاثاء، تحت عنوان "نعم.. أنا متهم في قضية عسكرية"، ساردًا خلفية ما حدث. بدأ متكئًا على تاريخ العلاقة بين السلطة العسكرية ومعارضيها، وصولًا إلى فقرة حول تصاعد التضييق عليه حتى توقف عن الكتابة في مصر، مرورًا بقلق الناشرين المصريين من طبع روايته الأحدث "جمهورية كأن"، واضطراره نشرها في "دار الآداب" البيروتية، ما يحرمه من زحام القراء المصريين الذي اعتاده في حفلات التوقيع، قبل أن يختتم بمعرفته أمر إحالته إلى القضاء العسكري بتهمة إهانة الرئيس والتحريض ضد النظام بسبب روايته الأخيرة ومقالته الأسبوعية: "هكذا أصبحت متهمًا في قضية عسكرية.. جريمتي الوحيدة أنني كاتب أعبّر عن رأيي". ختام مقال الأسواني صار خبرًا عاجلًا في عدد من الصحف العربية والعالمية.

وكان جدلًا أثير، مع صدور "جمهورية كأن" في بيروت، بين من صدّق صعوبة أو استحالة نشرها في مصر، وبين من رأى أن الأسواني يزُعم هذا الاضطرار من باب التسويق. لكن الأيام حسمت هذا الجدل بعدم توافر الرواية في المكتبات المصرية، في حين تتوافر الكتب التي تأتينا من دور النشر اللبنانية. فضلًا عن أن من قرأ الرواية، المُقرصنة إلكترونيًا، سيعرف أن صدورها في مصر كان سيتسبب، قطعًا، في مشاكل لناشرها، رغم أنها لم تتعرض مباشرة لما نعيش من لحظة سياسية راهنة، حيث توقفت أحداثها عند فترة ما قبل حكم محمد مرسي.

وكان تعليقًا للصديق الشاعر والمترجم أحمد شافعي في "فايسبوك"، أثار اهتمامي، حيث وصفها بأهم عمل أدبي صدر منذ 2011، وبين مناقشات الأصدقاء، هاتفتُه. قال لي إن الأسواني رفع عنّا جميعًا الحرج، ككتّاب مصريين، بإصدار روايته هذه، ذلك أن ما حدث كان واجبًا على الكتابة المصرية أن تعالجه في عمل ما.

الرواية ببساطة هي مُحاكاة أدبية لأحداث ثورة يناير وما حولها. قوامها تخيُل الكاتب للملامح الإنسانية والاجتماعية لشخصيات اعتبرها نماذج تعبر عن الأطراف المشاركة في الحدث الكبير. أطراف، من بينها الثوري والانتهازي والسلطوي وتاجر الدين، مع الدخول إلى قلب الحياة اليومية والأسرية والاجتماعية لهذه الأطراف. خاضت "جمهورية كأن" في تفاصيل ما حدث، بشكل مباشر اتكأ على تصوير حاد لمرارة الواقع، ولغة لم تتحاش بذاءته.

لما عرفتُ علاء الأسواني، كان قد تحقق له ما تحقق من شهرة أدبية في عدد من دول العالم، وعرفنا أن روايته "عمارة يعقوبيان" تُرجمت لأكثر من 30 لغة، تلتها "شيكاغو" بنجاح مشابه، والتفتنا إلى عمله الأسبق "نيران صديقة". وكان ما وصل إليه من جماهيرية أدخلنا، مع بدايات الألفية، إلى جدلية تفسير "الأفضل مبيعًا"، والتي لم تنته حتى اليوم، واعتبر البعض أنها جماهيرية مؤقتة، حيث لم تخضع للقوالب المعروفة. غير أن الزمن دائمًا هو فيصل مثل هذه الرهانات، وبدا أن الاعتراف بعلاء الأسواني كاتبًا عالميًا أمرًا بات محسومًا، سواء ناسبت أعماله ذائقتك أم لا. غير أن هذه الذائقة، النسبية والمتغيرة دائمًا، لا يجب أن تكون مرجعية في التضامن معه ضد ما يحدث له أو لغيره ممن يُعاقبون على إبداء الرأي.

لم أشهد تنحي مبارك بين الثوار في ميدان التحرير، لا أتذكر الأسباب، لكني شاهدت إذاعة البيان في التلفزيون، وجاءتني رغبة الاتصال به للتهنئة، ليس لكونه من المشاركين البارزين في أحداث الثورة، لكن لأنه كان من المحفزين عليها. فبينما كان هناك من يخطط ويؤسس الحركات الاحتجاجية السرية والمعلنة، كان هناك كُتّاب يداومون على تحفيز الرأي العام. ومقالات علاء الأسواني، في ما أتصور، كانت من المقالات الأكثر تأثيرًا في الشارع المصري، خصوصًا بين الشباب الذين رأيت الحركة المرورية تتوقف بسبب إقبالهم على ندوته في مكتبة أو قاعة ندوات.

قلت له: مبروك. قال: "بلاش اطمئنان زيادة، اللي جاي أصعب". ولا أتصوره إحباطًا لو قلت إن تحويل الأسواني للمحاكمة، في ما نعيش من لحظة عجيبة، هو إجراء بديهي، بل ربما جاء متأخرًا. ذلك أن جريمة التعبير عن الرأي هي جريمة كبيرة في أيامنا الصعبة.
--------
المدن