مشهد التطبيع ببعده السوري والإسرائيلي ... والقلق الوجودي لمن؟

راغدة درغام




لافتة وتيرة التموضع وحجز الأمكنة التي تسبق 29 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، موعد استئناف المفاوضات النووية مع إيران في فيينا، لافتة، ليس فقط بأبعادها الأميركية والروسية والصينية والأوروبية نحو الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وإنما أيضاً لجهة تزامنها مع مستجدّات إقليمية مفاجئة دلالاتها فائقة الأهمية وردود الفعل نحوها مثيرة للفضول والاهتمام. ففي خضمّ مشروع الفوضى في العراق الذي تنفّذه طهران عبر وكلائها بمختلف الوسائل، منها الرافضة لنتيجة الانتخابات ومنها المتوعّدة لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وفي أوّج تصعيد "حزب الله" ضد دول الخليج العربية وضد القضاء في لبنان بتعليمات من إيران، حدث اختراقٌ عبر البوابة السورية بزيارة وزير خارجية دولة الإمارات للرئيس السوري لاقى مواقف ذات دلالات تستحق القراءة المنفتحة على ماذا يجول في ذهن القيادات الإيرانية وكيف يترجمها الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله.


وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان تواصل مع وزير خارجية الإمارات عبدالله بن زايد في أعقاب اجتماع بن زايد مع الرئيس السوري بشار الأسد فيما كانت إيران تقوم بمناورات عسكرية كبيرة في البحر الأحمر ومياه الخليج قرب مضيق هرمز بتزامن مع بدء الإمارات والبحرين وإسرائيل مناورات عسكرية مشتركة هي الأولى التي يُعلن عنها تقودها القيادة المركزية للقوات البحرية الأميركية في البحر الأحمر والخليج.
شتائم حسن نصرالله المتوقَّعة لمثل هذه التدريبات لدول خليجية مع إسرائيل أخذت طريقها بسرعة الى الثلّاجة. أتت تعليقاته على لقاء بن زايد بالأسد مقنَّنة في تصنيفها "إعلاناً للهزيمة العربية" أمام ما سمّاه انتصار النظام السوري وانتصار الحرب على الإرهاب. مواقفه عكست بدء هبوطه من أعلى الشجرة التي تسلّقها في مواجهته مع الدول الخليجية مستخدماً جورج قرداحي، وزير الإعلام الجاهل والمتعجرف في آن، أداة تصعيد لاقى استياءً شعبياً من تسلّط "حزب الله" على الدولة والسيادة في لبنان، ولاقى احتقاراً عارماً لرفض قرداحي الاستقالة مكلّفاً بمواقفه المُزارع والتاجر في الداخل والمواطن اللبناني في الخارج قطع الأرزاق.
حسن نصرالله وجد نفسه فجأة رافعاً إصبعه وهو يتأبّط غصن شجرة قد يتهاوى. صعَّد ضد السعودية وتباهى أنه على علم بأربع جولات من المحادثات المهمّة بين السعودية وإيران في العراق زاعماً أنه "لم يؤتَ فيها على ذكر لبنان وعلى ذكر "حزب الله" على الإطلاق، لا في مسألة اليمن ولا في غير مسألة يمن". تحدّث بلغة الاستراتيجية العسكرية الإقليمية ليبيّن أنه على علم بمعادلات الصفقات، وقال إن "القصّة هي قصّة مأرب" اليمنية وليس الأزمة اللبنانية. بصراحة، إن التباهي بعدم ذكر لبنان أو "حزب الله" في المحادثات الإيرانية - السعودية يفتقد المنطق ويعكس التوتّر الاستراتيجي لـ"حزب الله" النابع من الخوف من صفقات كبرى وراء ظهر لاعب أصغر يعتبر نفسه غير قابل للاستغناء عنه - لكنه يقلق.
المشهد الدولي والاقليمي ركّز ويركّز على ما يمكن اعتباره العدّ العكسي الى إحياء الاتفاق النووي مع إيران وتطوير العلاقات الأميركية والأوروبية مع طهران، وما يرافق ذلك من تفاهمات مع اسرائيل- دولية وإقليمية. وهنا نظرة ضرورية لهذا المشهد:
- لم تقبع الدول الخليجية العربية في ظل الانتظار الى حين إتمام الصفقات الإيرانية الدولية ولم ترافق المؤشرات نقلة نوعية في هذه الصفقات مستلقية. بل انها أخذت الى المبادرة الاستراتيجية.
- المباحثات السعودية - الإيرانية جزء من هذه المبادرة التي بالطبع تركّز على ملف اليمن لأنه يتعلّق بالأمن القومي السعودي، لكنّها مباحثات أمنيّة أوسع تطرق باب الأمن القومي للدول العربية الخليجية وغير الخليجية- والعراق قد يكون في مقدمها.
- لبنان ليس في الأولوية في تلك المحادثات لأنه سقط في أيادي "حزب الله" وهو أداة مقايضة ثمينة لدى طهران في مساوماتها الدولية والإقليمية، بما فيها تلك التي تجريها مع إسرائيل عبر روسيا أو سوريا، أو عبر "حدود" الانتهاكات والمواجهات السيبرانية أو الميدانية في سوريا. ما تريده السعودية والدول الخليجية العربية الأخرى من إيران في ما يتعلق بـ"حزب الله"، هو كفّ يده عن الأمن القومي الخليجي عبر بوابة اليمن وبوّابة العراق، وبالتأكيد التدخل المباشر منه في الدول الخليجية.
- العراق فائق الأهمية لمشروع الجمهورية الإسلامية الإيرانية وهي لن تستغني عنه إلا إذا عدلت عن مشروع هلالها الفارسي أو إذا ضمنت القوى الدولية والإقليمية لطهران مصالح استراتيجية واقتصادية هائلة في العراق. حتى الآن، ما زال العراق في مرحلة تقويض سيادته وتدجينه عبر استراتيجية الفوضى أوّلاً ثم إلحاقها بتكتيك تمكين رجال طهران من فرض ما يريدونه بآليات السيطرة المنظَّمة على الأمن في البلاد.
- سوريا مشهد آخر من حيث تقاطع المواقف العربية والأميركية والروسية والإسرائيلية والإيرانية فيها على وقع استمرار بشار الأسد في السلطة. الأردن كان ناشطاً جدّاً مؤخراً في دفع تطبيع العلاقات العربية مع سوريا الأسد. جزء من جهود الملك عبدالله كان مع الرئيس الأميركي جو بايدن وجزء آخر صبَّ في تعاونٍ مع مصر ومع البنك الدولي ومع إدارة بايدن في تفاهمٍ على مد الغاز عبر أنابيب من مصر الى الأردن الى سوريا فلبنان. برّرت إدارة بايدن مباركتها باسم المساعدات الإنسانية للبنان. حقيقة الأمر هي أن هذه الصيغة كانت أولى خطوات المَخرج من "قانون قيصر" الذي يحظر التعامل مع سوريا الأسد والذي فرضه الكونغرس في عهد دونالد ترامب.
- القرار الأميركي هو الخروج العسكري من سوريا، ورأي إدارة بايدن هو أن هذا الخروج يتطلّب بالضرورة تعاون روسيا وبشار الأسد- وكذلك إيران. وما إبعاد ممثل "الحرس الثوري" الفائض حماسه ضد القوات الأميركية في سوريا، جواد غفاري، سوى مؤشر على التفاهمات الجارية والتي يقودها مسؤول الشرق الأوسط الأول في البيت الأبيض، بريت ماكغورك. فالولايات المتحدة، بالذات في زمن بايدن، تريد أن تتحرّر من أعباء منطقة الشرق الأوسط برمتها. تريد المغادرة.
- سوريا هي أيضاً محطّة مهمّة في التطبيع مع إسرائيل- الأمر الذي تريده روسيا والولايات المتحدة وكذلك الدول العربية التي طبّعت مع إسرائيل. إحدى عراقيل التطبيع بين سوريا وإسرائيل هي إيران التي لم توافق بعد على الجهود الروسية الرامية الى صفحة جديدة في العلاقات الإيرانية - الإسرائيلية، أقلّه على الصعيد العلني. قوة إيران العسكرية داخل سوريا ميدانية وفي شتى أنحاء سوريا ولذلك يُؤخَذ برأيها. لكن قوة إسرائيل العسكرية داخل سوريا تجد لنفسها مباركة روسية صامتة، وربما مباركة سورية - إذا برزت الحاجة. استراتيجياً، روسيا أقوى من إيران في سوريا. تكتيكياً، إيران تبقى قوية ما لم يتم تحييدها في سوريا - وهذا يتطلّب قرارات كبرى، دولية وإقليمية.
- التطبيع العربي مع دمشق يحدث على أصعدة عدّة بمشاركة أردنية وإماراتية ومصرية وبحرينية وربما يكون هدفه الحدّ من نفوذ إيران في مناطق معينة في سوريا. هذه الدول العربية تعترف بالمصالح الروسية في سوريا وشرعيّتها التي أضفاها عليها بشار الأسد. وهذه الدول الأربع هي التي طبّعت مع إسرائيل وهي في صدارة التطبيع مع سوريا. والمسألة ليست مصادفة، بل إنها خطوة استراتيجية لبشار الأسد موقع قدم فيها ومصالح متعددة.
- اذا ركبت سوريا قطار التطبيع مع إسرائيل لن تكون وحدها، فهي تتأبّط لبنان معها في "تلازم المسارين"، وهي قد تتبع المغرب وليبيا في هذه الخطوة التي لم تعد غير واردة. ماذا سيفعل "حزب الله" بمقاومته عندئذ؟ ما زال ذلك أمراً مجهولاً، لكن السؤال يُطرَح ليس فقط في معادلة التطبيع العربي مع سوريا وإسرائيل، وإنما في معادلة التطبيع الأميركي - الإيراني أيضاً.
- الإمارات أخذت على عاتقها قفزة استراتيجية لافتة لم تأتِ من فراغ - إن كان في علاقاتها المعلنة مع إسرائيل والقائمة على تعزيز التعاون التجاري والتدريب العسكري، أو في اعتمادها مبدأ خفض- التصعيد de-escalation مع إيران، الى زيارة وزير خارجيتها دمشق ولقاء الأسد بلا أي اعتراض أميركي جدّي للقفز على "قانون قيصر". الإمارات دخلت عضواً في المنتدى الاقتصادي الرباعي الجديد الذي يضم الولايات المتحدة والهند وإسرائيل. البعض اعتقد أن هدف المنتدى مواجهة الصين، لكن علاقات الإمارات بالصين قويّة جدّاً ولن تدخل في تكتّلات ضدها ولا ضد روسيا. فسياسة الإمارات نحو سوريا تتوافق كثيراً مع الأولويات الروسية هناك. وهذا الأسبوع، فازت الإمارات باستضافة مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ COP28 عام 2023- فاهتماماتها متعدّدة من المناخ الى الطاقة الى التجارة الى الأمن البحري ضمن استراتيجية مدروسة على المدى البعيد.
الأسبوع المقبل سيجري المبعوث الأميركي الخاص لإيران، روبرت مالي، مشاورات مع السعودية والإمارات والبحرين وإسرائيل للتنسيق بشأن مسائل عدّة ومخاوف، منها ما يدخل في المسيرة التطبيعية، ومنها ما يتطرّق الى المخاوف من الأنشطة الإيرانية المزعزعة للاستقرار. إنما الأولوية القاطعة لإدارة بايدن هي ألا يؤثِّر أي شيء في الجولة المقبلة من المحادثات النووية وإحياء صفقة JCPOA.
شدّ الحبال سيزداد في الأسبوعين المقبلين، لكن "الطبخة استوت" بحسب المؤشرات. ظاهرياً، تبدو الشروط الإيرانية تعجيزية لإدارة بايدن، لكن هناك تصريحات ذات دلالات على نسق ما قاله وزير الخارجية الإيراني عن استعداد بلاده "لتفاهم جيّد" وعن اعتبار عودة كل الأطراف الى التزاماتها "مبدأ مهم وأساسي". وفعلياً، إن ما يريده الرئيس جو بايدن هو استعادة العلاقات الأميركية - الإيرانية التي أبرمها الرئيس الأسبق باراك أوباما ونائبه بايدن وفريقهما حينذاك الذي يمسك زمام الملف الآن.
الفارق هو أن الدول الخليجية العربية أُصيبت حينذاك بالصدمة الأوبامية، لكنها اليوم تموضعت لاستيعاب القرارات البايدنية. هذه الدول هي ذاتها التي يعتقد "حزب الله" إنها عابرة وقابلة للإهانة. واقع الأمر، أن بلاغة "حزب الله" التصعيدية تأتي على حساب الشعب اللبناني الذي أبلغه بكل وضوح أن إذلاله وقهره وتجويعه للبنانيين ليس "مقاومة". السيد حسن نصرالله يقول إن إسرائيل تعيش القلق الوجودي من المقاومة التي حيّدها لسنوات بقرار منه ومن إيران. مع اختلاط الأوراق الإقليمية والدولية، يبدو "حزب الله" هو الذي يعيش هذه الأيام القلق الوجودي خائفاً من لعنة الاستغناء
------------
النهار العربي