موسم استبعاض الدستور

ياسر الأطرش



منذ سقوط الدول الوطنية التي نشأت في غير بلد عربي عقب خروج الاستعمارات الأوروبية، وسيطرة الأنظمة ذات النزعة القومية والدينية، لجأ دكتاتوريو تلك الأنظمة إلى لعبة ابتدعوها ثم ما لبثوا أن عمّموها وأداروها بينهم في توافق غير معلن، مباركين بعضهم بعضاً ومتواطئين على إدامتها إذ إنها تحقق غرضين رئيسين داخلي وخارجي فحواهما شرعنة اغتصاب السلطة بالرضى!.

 

لعبة "الدستور" هي اللعبة الأحبُّ إلى قلوب الحكام العرب لا ريب، فهي التي تحملهم على سرير الحكم حتى حافة قبورهم، وهي التي يمكن تعطيلها وتعديلها وتفعيلها وطيّها وليّها إلى ما لا نهاية لتتناسب وأوضاعهم العمرية والصحية...، وهي في الوقت نفسه السيّاف الأغلظ الأخشن والسيف المسلط على رقاب الشعوب، فأكرم بلعبة بها نحكم إلى الأبد، وبها أيضاً نقمع من يعارض حكمنا إلى الأبد!.

لعبة "الدستور" هي اللعبة الأحبُّ إلى قلوب الحكام العرب لا ريب، فهي التي تحملهم على سرير الحكم حتى حافة قبورهم

ولشدة ما عبث الحكام بالدساتير، بدت التعديلات التي يعمل عليها نظام السيسي في مصر حالياً - لتمديد ولاية السيسي إلى الأبد- خطوة على المسار وحلقة في مسلسل هزليّ معروف البداية والنهاية وما بينهما، لذا لم نسمع ولن نسمع هديراً يتجاوز العالم الافتراضي، ولن نرى زلزالاً في ميدان التحرير ولا موجات ارتدادية في واشنطن وباريس.. فكل شيء يسير وفق القانون، والتعديل منصوص عليه في الدستور نفسه، الدستور الذي أكله حمار محمد الماغوط منذ ثمانينات القرن الماضي، وما زال يجتره حتى يومنا هذا، وسيبقى..  

ولعل "دستور" سوريا هو المرشد الأوضح للدكتاتوريين "الديموقراطيين" في المنطقة، إذ جعله حافظ الأسد ألعوبة وامتطاه منذ العام 1971 ليتحول بعدها الانتخاب إلى "استفتاء" مع تشريع قانون يقول إن "حافظ الأسد هو قائد سوريا إلى الأبد"، فأجرى الأسد الأب استفتاءات على حكمه كل سبع سنوات "1978، 1985، 1992، 1999" وكان يحظى بنسبة 100%!.

وفي العام 2000 حين مات الأسد الأب، كان لا بد من توريث الحكم للابن بطريقة شرعية، فدكتاتورية آل الأسد لا ترضى الاغتصاب القسري، بل الانتهاك بالتراضي، وهو ما تم لبشار بعد موت والده بأيام، إذ اجتمع مهرجو ومرتزقو "مجلس الشعب" وصوتوا بالإجماع خلال 20 ثانية على تعديل الفقرة التي تقول بأن المرشحين لرئاسة الجمهورية يجب أن يكونوا قد أتموا الأربعين من العمر، وهو ما لا يتناسب والوريث القاصر وقتها، فتم تعديل الفقرة ليصبح عمر المرشح 34 عاماً (بعمر بشار وقتها)، ثم ليتم تعديل التعديل في العام 2012 وإعادة اشتراط أن يبلغ المرشح 40 عاماً، وربما يتم تعديل تعديل التعديل لاحقاً إذا مات بشار قبل أن يتم ولده حافظ الثاني الأربعين!.. لولا أنّ هذا السيناريو قضت عليه الثورة السورية.

وعلى هذه السنة -التي سيلعن الله والناس مبتدعها ومن عمل بها- سار زعماء العرب، وكلهم قائدٌ ضرورةٌ لا بديل عنه ولا معوّض، فأعمل عبد العزيز بو تفليقة مبضعه في جسد دستور الجزائر تقطيعاً وتوصيلاً حتى لاءم ترشحه لولاية ثالثة ورابعة، وخامسة الآن!..

في العام 2000 حين مات الأسد الأب، كان لا بد من توريث الحكم للابن بطريقة شرعية، فدكتاتورية آل الأسد لا ترضى الاغتصاب القسري، بل الانتهاك بالتراضي

وكذا فعل عمر البشير، الرئيس الإسلامي الذي لا يأمن على السودان وشعبه ودينه إن هو ترك المنصب، فقرر التضحية من أجل ولاية خامسة وبأمر "الدستور" ورضاه، خدمة لهؤلاء الجوعى المنهكين الذين يثورون اليوم عليه ويطالبونه بالرحيل مجافين ومخالفين "الدستور" الذي عدّله ممثلوهم وأقروه هم ولو عن غير علم!.

أما الخطوة المفاجئة حدّ الإدهاش، فأقدم عليها بداية العام الجاري الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز، عندما رفض تعديل الدستور بما يسمح له بالترشح لولاية ثالثة، معلناً أنه سيحترم الدستور ولن يترشح لولاية ثالثة، إذ يسمح دستور موريتانيا الحالي بفترتين رئاسيتيتن ينهي ولد عبد العزيز ثانيهما منتصف العام.

والخشية كل الخشية أن يتعرض ولد عبد العزيز لضغوط من زملائه المعدّلين، إذ إنه بفعلته تلك إنما يسنُّ سنّة سيئة من شأنها -إنْ تمت- أن تصبح مثالاً يُحتذى وحجة يأخذ بها أعداء التمديد المغرضون!. كما أنه سيضفي على "الدستور" صفة الاحترام والهيبة، وهو ما يُخشى ويُهاب ويحرق "الطبخة" والطبّاخين.

فهل يثبت الرجل على موقفه ويخرج "الدستور" من ظلمات بطن الحمار إلى النور، أم يتداعى ويمتثل لنصائح أقرانه الذين ربما ينصحونه بالاقتداء بجمال عبد الناصر، ذلك الذي عدل عن استقالته إبان هزيمة 1967 وعاد للحكم بـ"أمر الشعب"، ومن أجل الشعب!، مسلّماً لواء الأمة للعسكر من بعده، حتى وصلت إلى الجنرال السيسي الذي ربما يريد تغيير السلسلة الوراثية وجعلها في آل بيته بدل رفقاء معسكره.